حول ظاهرة العنف الديني في المملكة

إمكانية الإنزلاق في صراع طائفي ضد داخلي

مرتضى السيد

 الأديان جاءت رحمة للعالمين.. جاءت لإسعادهم وتحقيق مصالحهم، ومراعاة كراماتهم وإنسانيتهم وحفظ حقوقهم. هذا من الناحية النظرية. ولكن من الناحية التطبيقية، تحوّل الدين في كثير من الدول ـ أياً كان الشكل الذي اتخذه ـ  الى أقوى أدوات شرعنة العنف والحشد من أجل استخدامه.

الجزيرة العربية في تاريخها الحديث لم تشهد عنفاً مؤسساً على القومية، ولم يكن العنف القبلي، أي صراع القبائل وحروبها، عنفاً شاملاً فاقعاً، فقد كانت الحروب القبلية وبأدوات القبيلة محدودة الخسائر، مع أن هناك محاولات لتضخيم ذلك الإقتتال لتبرير ما جاء بعده. وأيضاً لم تشهد الجزيرة العربية حروباً دينية بالمعنى المتعارف عليه إلاّ بظهور الحركة السلفية (الوهابية) بشكلها الحديث (الإخواني) في العقد الثاني من القرن العشرين.

القومية كانت محفّزاً للعنف، وهذا واحدٌ من أهم الإشكالات التي تواجهها الحركات القومية في العالم أجمع. لقد شهد العالم كثيراً من الحروب القومية، سببها التطرف العرقي والقومي، وتدخل الحربان العالميتان في خانة الحروب القومية المتطرفة، وكذلك حروب الإبادة التي شهدناها في أكثر من بلد عالمثالثي. غير أن الحروب القومية والفاشية لم تخلُ هي الأخرى من محفّزات دينية، مثل ذلك حروب البلقان بين كرواتيا وصربيا، وبين صربيا والبوسنة والهرسك. أيضاً قد تتداخل الحروب القومية مع الإنشقاقات القبلية، كحرب التوتسي والهوتو، وغيرها مما يحدث في عدد من البلدان الأفريقية.

حروب التوحيد السياسي التي شهدتها المملكة مرّت عبر شرعنة العنف الديني، فكان جامحاً شديد العنف، جرى تبريره بأنه كان ضرورة لولادة المملكة كدولة حديثة. لقد كان العنف الديني أشدّ وأقوى من أيّ عنف تواجد على الخارطة السياسية للجزيرة العربية الأمر الذي أدّى الى اكتساح القوى القبلية والمناطقية جميعها بقوى مشحونة دينياً ترى أن الحرب دينية شعارها: (هبّت هبوب الجنّة وينك يا باغيها).

اليوم ونظراً لإستمرار الشحن الديني منذ أن نشأت الدولة، ونظراً لغياب الحسّ الوطني، فإن إرهاصات العنف الديني المدمّر باقية كسيف مسلط على الدولة والمجتمع. الدين كما القومية سلاح ذو حدّين: يمكن إستخدامه في العنف ضد الآخر قبل أن ينقلب ويشرعن العنف ضد النفس. إن إمكانيات انفلات العنف المحلّي المؤدلج مذهبياً قائمة، فالمبررات الدينية التي استخدمت قبل قيام الدولة لاتزال مشرعة للإستخدام، والنظرة الى الآخر المختلف لم تتغير رغم قيام الدولة وافتراض وجود قواسم مشتركة أقلّها أن جميع المواطنين يعيشون تحت ظل نظام سياسي واحد.

كان العنف الديني في المملكة واستمرّ وسيبقى في المستقبل حادّاً عنيفاً، وقد لا يمكن السيطرة عليه بسهولة. إن تاريخاً من التحريض الديني، وأطناناً من الكتب والفتاوى المنشورة طيلة العقود تؤصل للعنف تحت مدعيات الجهاد ضد (المواطن المسلم)، وأجيال عقب أجيال تتخرّج وهي تحمل الضغائن والرؤية النمطية ضد نظيره في الدين والخلق.. كل هذا لا يمكن أن يختفي بين ليلة وضحاها في غياب البدائل الثقافية والمناخ الصالح لنمو الفكر والرؤى المعتدلة، وفي غياب الإصلاح السياسي الذي يؤسس لعلاقة متوازنة ليس بين السلطة والمجتمع فحسب، بل وبين فئات المجتمع السعودي نفسها أيضاً.

ما نتوقعه هو استمرار للعنف بوجهه الديني سواء ضد الدولة مباشرة أو ضد المصالح الغربية كانعكاس لصراع القوى السلفية مع الدولة، أو ضد فئات من المجتمع السعودي ترى فيها القوى السلفية عدواً للدين يجب استئصاله والقضاء عليه.

لأول مرّة في تاريخ المملكة منذ إعلان تأسيسها تتعرض مساجد عديدة للشيعة الى الإعتداءات والحرق، وكذلك المقابر الى الإهانة، والمصاحف الى تمزيق وحرق (باعتبارها مصاحف مختلفة مزوّرة محرّفة!!)  كما حدثت في تاروت والقطيف وعنك. ولأول مرّة في تاريخ المملكة يجري اختطاف رجل دين شيعي ضرير، ويهان ويلقى به في الصحراء على يد أناس ادعوا أنهم من رجال المباحث.. حدث ذلك في يوم الأحد الموافق للثامن عشر من مايو الماضي. ولأول مرة تؤتي فتاوى التكفير التي طالما أعلنتها صراحة شخصيات المؤسسة الدينية ومحازيبها وحوارييها ضد الشيعة، وكذلك دعوات التحريض التي شهدتها ساحات الإنترنت، تؤتي ثمارها في موجة من التهديد والتآمر بالقتل لشخصيات شيعية، اكتشف بعضها صدفة قبل التطبيق، وتسترت إمارة الشرقية عليها متجنّبة الصدام مع دعاة العنف الطائفي، وحتى لا تتهم بالتخاذل في توفير أبسط شروط الأمن.

معنى هذا كلّه.. أن العنف الديني/ الطائفي لن يقف عند حدود مواجهة الوجود الأجنبي في المملكة، بل قد ينزلق باتجاه التعرض للمصالح الوطنية وللرموز السيادية في البلاد، والى حرب تفتيتية داخلية بين المواطنين أنفسهم.

حين تعجز أجهزة الأمن عن توفير الحماية للمواطنين ـ وهو هنا يحمل معنى خاصاً، حيث أن مبرر احتلال مناطق الشيعة عام 1913 جاء بذريعة دعوات مواطنين لإبن سعود لـ (توفير الأمن) ـ فإن النتيجة الأولية والمنطقية هي أن يقوم المواطنون بتوفير الأمن لأنفسهم ويحتكموا الى السلاح، وكلّما انسحب بساط السلطة الأمني انسحب معها التأطير السياسي، ونمت مشاعر الإنشقاق في غياب الدولة عن ممارسة سلطاتها الأوليّة.

لا نريد المبالغة في التحليل، ولكن التطورات الدراماتيكية تدفعنا الى الإعتقاد بأن العنف الديني والفكر الديني المتطرف الذي تمأسس على قواعده بنيان الدولة السعودية الحديثة، واستمر معها حتى اليوم، قادر على هزّ بنيانها من جديد.. خاصة وأن هذا الفكر المتطرّف الذي كان الشيعة في مقدمة أجندة حروبه الداخلية والخارجية كأهم حلقة في صراع كوني متخيّل بين الإسلام والكفر، وبين الخير والشر.. هذا الفكر الذي بدا خلال السنوات القليلة الماضية وكأنه يراجع حساباته ويضع الشيعة في الخانة الثانية في قائمة المستهدفين ليحل الأميركيون والغربيون الدرجة الأولى.. بدا وكأنّ هناك من يريد العودة الى المعارك الداخلية من جديد وإعادة الأولويات وصياغتها مرّة أخرى. وهناك شعور متزايد بين المواطنين الشيعة يميل الى الإعتقاد بأن بين مسؤولي الدولة وجهاز الأمن من يرى بأن الحراب السلفية المتطرّفة إذا ما توجّهت الى عدوٍ داخلي فسيكون أهون بكثير من أن تتوجّه الى الولايات المتحدة ومصالحها.