وربما صحّت الأبدان بالعلل
الإرهاب: تجفيف المنابع، واستئصال الجذور

 مهندس/ صالح بن محمد علي بطيش

 

يشهد المجتمع ظاهرة الإرهاب من بعض الفئات والجماعات كأسلوب للتعامل مع الأزمات والسلبيات التي يمرون بها، وفي ذلك مؤشر إلى خلل ما، فالمجتمع يجني الآن نتائج سلوكيات وتجاوزات سابقة لم يحسب لها هذا الحساب، ومنها إفتقاد التسامح ولغة الحوار ورفض الآخر. الإرهاب: إيذاء باليد أو اللسان، بالفعل أو بالكلمة. قد يكون من فرد أو من جماعة، من مؤسسة أومن مسؤول، من قريب أو صديق. الإرهاب يشمل الأذى المادي والمعنوي.. قد يكون إيذاء بالكلام أو تحقير وإهانة، سلوك فيه شدّة وقسوة وعدوان وإكراه واستخدام لا مشروع للسلطة أو القوة للضغط على الطرف الآخر بغرض ابتزازه.

 والإرهابي يهدف إلى إرغام الآخر للانصياع أو الخضوع. من صوره: إنكار الآخر وقيمته واستحقاقه للاحترام، واغتيال سمعته وشخصيته واستبعاده وتصفيته معنوياً أو جسدياً، ونفيه خارج الساحة والحلبة. لا يعترف الإرهابي بالآخر، و يتعمّد رفضه وإهماله وتحويله إلى شيء لا قيمة له، ومصادرة حقوقه، ومحاصرته معنوياً ومادياً، والنظر إليه كمعتوه لا يمكن الاستفادة منه وعدم مشاركته في أي نشاط. يتصور الإرهابي عدوّه، ويصوره للآخرين، في قالب وبطريقة تخدم أهدافه، يخطفه من المجتمع ويصبح ضحية لأهدافه وخياراته.

الإرهاب عمل محرم، بدلالة كتاب الله وسنّة نبيه وإجماع علماء المسلمين، الذين عايشوا الفقه الشرعي بأصوله ومتونه، ولا يمكن أن يرضى به أو يبرره من لديه علم من الكتاب. إن استنكار ورفض وشجب العنف وما ينتج عنه من إرهاب، أمر تتفق عليه جميع الأديان والملل والعقائد، وأن من يقوم به، قد تجرد من جميع القيم الإنسانية والمشاعر البشرية.

الإرهاب ظاهرة لم تولد صدفة، هو نتيجة تراكمية بسبب أجواء وبيئة مركبة تتداخل فيها الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وتردي ظروف المعيشة وإفرازات التنمية السريعة، وكذلك التعسف والاستبداد والإفراط في استخدام القوة من قبل السلطة. هؤلاء الإرهابيون لم يولدوا فجأة، بل نبتوا وترعرعوا داخل بنية اجتماعية كانت مغلقة، استجابت سريعاً وبصورة فاضحة وسالبة للمؤثرات عند انفتاحها على العالم بسبب وجود خلل اجتماعي. الإرهاب في المملكة نتيجة لمسلسل هجمات الانغلاق على أدوات العصر والرفض لمنتجات البيئة فكرياً وثقافياً.. بحيث أدى الأمر الى التكفير وجهاد من لم يؤمن بما يؤمن به الإرهابيون.

 للإرهاب دوافع، بعض المسؤولين يمارسون الإرهاب الوظيفي من خلال المحسوبية وتصرفات جائرة وظالمة، حيث يقربون الذين يتأقلمون معهم ويمنحونهم جميع الفرص ويبعدون الآخرين، وقد يكونون الأكثر كفاءة، فينعكس ذلك عليهم بالاحباط والضغط النفسي والاحتقان. هناك مسوغات وعلل للإرهاب تستحق الدراسة والبحث، منها موروثات الفروق الاجتماعية والإقليمية والقبلية والتعصب القبلي والشللية، التي لا تزال لها مواقعها على الخارطة الوطنية، ومسوغات منها سوء المعاملة، والإفراط في استخدام السلطة والاضطهاد، والشعور بالإحباط والظلم، وعدم موضوعية القرارات، وقصور مساحة الحوار المتاحة في المجتمع، وعدم إتاحة الفرص للجميع للمشاركة في تسيير الأمور، وشعور الفرد بان كل شيء مفروض عليه، والتمايز في معاملة الأفراد، وشعور الفرد بالضياع وعدم القدرة على التعبير في بيئة متوحشة. ولا يجوز استبعاد الدوافع الاقتصادية وتردي ظروف المعيشة، منها البطالة والفراغ، إذا لم يجد الفرد إجابة مقنعة وموضوعية لماذا لم يحصل على الفرص نفسها التي حصل عليها الآخرون، يبدأ ببحث عن السبب، وإذا وصل إلى قناعة بان المجتمع لم يعطه حقه من هذه الفرص، ربما ينتقل إلى مرحلة أخرى، تتلخص في كيفية أخذ فرصته وبأي وسيلة، وقد يدفعه التفسير اليائس وبأنه غير مقبول كعنصر فاعل في المجتمع، يدفعه إلى أعمال وسلوكيات غير محسوبة نتائجها، بعد أن تكون نزعة التطرف قد غرست في ذهنه.

 إلا ان الحزن لا يجدي، والغضب والشجب والاستنكار لا يكفي، والتبرؤ من أولاد وإخوان أو أقرباء تورطوا، لا يحل مشكلة قائمة تحتاج من المجتمع التكاتف لفهم نشوئها وانتشارها ووصولها إلى هذه المرحلة الخطرة التي تهدد مكتسبات ووحدة المجتمع، بسبب انتشار ثقافة العنف ورفض ثقافة التسامح والحوار وقبول الآخر.

 لا تجدي الوسائل التقليدية من ملاحقة واعتقال في القضاء على الإرهاب، بالرغم من أهمية هذه الوسائل والحاجة لها، كما ان النظرة الأحادية لا تجدي للتعامل مع ظاهرة متعددة الأبعاد والمستويات وبالغة التعقيد. وكما قلت فإن الجهد الأمني مهم ولكنه لا يكفي، وإن العصا والمسدس لا يصححان الأخطاء التربوية في تغيير السلوك، إذ لا بد من تجاوز مرحلة التنديد والشجب والاستنكار إلى مرحلة متقدمة ومتطورة، التعامل بفكر ومنهج جاد وعلمي للوصول إلى جذور القضية والظاهرة، بفكر يشمل وقفة صادقة للبحث ودراسة العنف. لا يكفي التركيز فقط على العقاب، لأنه قد يؤدي إلى عنف مضاد. بل تجب معالجة البيئة والمناخ الذي أفرز ذلك. ليس صحيحاً الإهتمام بالحلول المؤقتة والتعامل من خلال ردود الأفعال أو الاكتفاء بخطوات قصيرة الأجل لأن ذلك لا يخدم القضية.

لا بد من التفكير والتعامل بمنهجية وجهد مخطط مستمر يأخذ في الاعتبار جميع المتغيرات، من خلال حوار وطني يشمل جميع الظواهر التي بدأت تظهر في المجتمع ولها تأثير على استقراره ووحدته منها: البطالة، تراكم الدين العام، هدر المال العام، الفساد المالي والإداري، استغلال وتجاوز السلطة والنفوذ، الشللية في الجهاز الحكومي، عدم التركيز على الكفاءة والخبرة. لا بد وأن ننظر في أسباب الإرهاب ودوافعه واستقصاء بواعثه كظاهرة اجتماعية تتكرر، ونركز على دور المجتمع في الحدّ منه ومنع فرص نموه، وكيفية تجفيف منابعه، لمنع ما ينتج عنه من عنف وبربرية و سلوك لا إنساني. من المهم معرفة بواعث الإرهاب والبيئة التي تسبب ظهوره والظروف المساعدة، ولا ينبغي التقليل من حجمه وإبرازه على أنه ظاهرة عارضة، أو أن هناك قوى خارجية توجه هؤلاء الارهابيين، أو أنهم واقعون تحت تأثير من الخارج، و محاولة التقليل من شأن مستخدمي العنف عبر القول بأنهم شباب مغرر بهم. من المفيد والأجدى تفكيك ذهنيهم واكتشاف الأفكار الي يحملونها.

كما أحداث الإرهاب يجب أن تنبه الغافلين، وتعيد صواب المخدوعين، وتضع الأمور في نصابها الصحيح، أحياناً تكون في المحن منحاً، وفي المصائب هبات، وربما صحت الأبدان بالعلل. إن القمع والحجب والانغلاق وسائل تغطي مؤقتاً مظاهر التمرد والرفض، لكن النجاح فيها مؤقت، وقد تنفجر الأوضاع فجأة بصورة لا يمكن التنبؤ بخطورتها. لا يمكن أن يعالج الإرهاب بالمسدسات، بل بالحوار، نرد ونقارع الحجة بالحجة. إننا بحاجة إلى نمط وأسلوب تفكير وخطاب مختلف، نتخلّى فيه عن نمط الصوت الواحد والفكر الواحد (لا أريكم إلاّ ما أرى). القضاء على الارهاب يستلزم تفعيل وتفجير طاقات الأمة في عمل إيجابي، من خلال ما يملك كل فرد من فكر وطاقة تحت مظلة تستوعب كل طاقات الأمة حتى لا يحصل الشطط والاحتقان.

إن لدى المواطنين هموم وقضايا وطنية حساسة تحتاج إلى إصلاحات.. هناك مسائل ملحّة لتحقيق الحرية الذاتية، وتعميق صلة المواطن بالسلطة، حتى نتجاوز هذه الانحرافات والسلبيات التي جاء معظمها من الداخل. إننا بحاجة الى بناء وطن للجميع.. وطن يحقق الوئام الإجتماعي والتساوي في الحقوق والواجبات ووضع الكفاءة مكان المحسوبية.. وطن يفسح المجال لنقد الذات بالجرأة والشجاعة اللتين تفرضهما قوائم المصلحة الوطنية، ويفتح الأبواب لكل الرياح الجديدة للتغيير وفق اتجاه إصلاحي مفيد ومعتدل، بحيث يخلق مناخاً صحياً بعيداً عن المحسوبية والوصولية التي تفرز الاحتقان وتثير النفوس.

ليس من الحكمة أن تبقى الأنظمة القديمة التي انتهى مفعولها، قائمة يستغلها البعض، مقابل خسائر اقتصادية وسياسية وضحايا أرواح. يجب أن نعطي الآخر هامشاً، نعترف به، نتيح له الفرص، نحترم رأيه، نتعلم كيف نعبر عن آرائنا، نتعلم مهارة إدارة الحوار، نتعلم مهارة الاختلاف مع الآخر، نتعلم مهارة تفسير المواقف والسلوك، ولا نتعامل معها بسرعة وعشوائية وإنتقائية، نبتعد عن التفسير الذاتي أو الشخصي للمواقف والسلوك. كما أن إشراك المواطن في أدوات القرار يجعله يقبل ويواجه التحديات أو على الأقل يتقبل ويصبر ـ مقتنعاً ـ مهما كان آثارها قاسية، ويسد الثغرات والفجوات ويربط القاعدة بالقمة وينشر الشفافية والوضوح ويمكن الفرد من أن يقول رأيه وكلمته وهو مطمئن من ناحية حقوقه وأمنه. إشراك المواطن في صياغة المستقبل ينزع عن الحكومة مسؤولية تراكم الأزمات والاتهامات التي توجه لها وتشكك في قدرتها على معالجتها بشكل حاسم، وتحمي المواطن من تجاوز السلطة. وما لم يتحقق ذلك فإن الأخطاء ستزداد، والعنف سيستمر.

 لو أتيحت لنا دراسة أحوال وشخصية الإرهابيين لوجدنا أن معظمهم يعانون أمراضاً نفسية انتقلت جراثيمها إليهم من المجتمع. لقد كانوا ضحايا أم تجهل مبادئ التوجيه، وأب لا يعرف بناء الشخصية، ومعلم لا يقدر الغرائز ولا يؤمن بفضائل التوجيه، ومسؤول ظالم لا يعطي كل ذي حق حقه.