فليواصل الاستعمار إزالة مخلّفاته

 

 

مالذي يدعونا لمنابذة الاستعمار ومنعه من إتمام مهمة إزالة أنظمة الاستبداد التي نشأت تحت ظله ومباركته ودعمه، ومالذي يدعونا للحرص على بقاء أنظمة مستبدة، لا تتمتع بأدنى مؤهلات الحكم ولا تمثل سوى مصالح فئة لا يتجاوز عددها عدة آلاف.

مالذي يحرّك فينا نخوة الدفاع والمنافحة عن أنظمة تمثل الحرية والمساواة والعدالة خصوماً تكوينيين بالنسبة لها، حتى ساقها بطشها كيما تجعل جهاز الأمن وسيطاً دائماً في العلاقة بينها وبين شعوبها، وصارت السجون تفوق عدد المدارس،  وصار من يعمل في جهاز الأمن يزيد عدداً على العاملين في مؤسستي التخطيط والتنمية.

ما الذي يجعلنا نلتصق بأنظمة كهذه، هل لأنها جلبت الحرية والرفاه لشعوبها، أم لأنها تحمل مشروعاً تحررياً في مناهضة الاستعمار، وهل باتت العلاقة الحميمية بين الاستعمار والاستبداد مورد تساؤل حتى ننادي بحياة الزعيم الورقي الذي لم يجلب إلينا سوى العار والقهر والخزي، وبتنا نخجل من الافصاح عن هويتنا وإنتمائنا لدول تحارب مواطنيها في حقوقهم الطبيعية التي شرعها خالقهم، وزاد الطين بلة أن يُمنع المحرومون من الـ (آه) وإن خرجت تخرج بأرواحهم.

لهذا أجزم أن معارضة الاستعمار أسهل بكثير من معارضة الاستبداد، ففي الأولى خصمك بكل ما فيه من سوءات فهو ديمقراطي، ولن يلجأ الى إستعمال الرصاص والقنابل بتوسع في مواجهة الحركات المدنية.. أما اذا كان خصمك الاستبداد فإنه يأتيك والاستعمار من خلفه ناسياً أن من يواجههم أبناء الارض التي حملته والعمال الذين شغّلوا المصانع التي أمدّت أقتصاد الدولة بالمال الوفير وعبّدوا الطرق التي سارت عليها عربات الملك والأمير وحملوا على ظهورهم الطوب والجص من أجل بناء وزارات الدولة التي قبع فيها الأمير والوزير..هذا الاستبداد الذي لا يتمتع بأدنى صفة أخلاقية أو كرامة يذبح ويقتل ويشرّد دون رعاية لحرمة أرض أو لرأي عام أو وسائل إعلام، فها هي مقابر الاستبداد في العراق تتكشف بعد سنوات على دفن جثث الابرياء فيها.

الخلاص من الاستعمار أسهل من الخلاص من الاستبداد، فأنت تخوض مع الأول حرب شرف وكرامة، وتدخلها وأنت مرفوع الرأس والملايين تعضدك وتشد من أزرك وحين تقتل يورد أسمك في سجل الشهداء والخالدين، أما حين يجرّك حظك العاثر لخوض حرب مع الاستبداد، فإنك تحاربه وحدك، وقد ينالك من المضللين، ضحايا الدعاية  الاستبدادية، أذى كثيراً وحين تعتقل أو تقتل ـ لا فرق ـ تكون من المنسيين وربما تحسب من العملاء.

الشعب العراقي الذي خضع تحت نير سلطان غشوم متعطش للدم طيلة ثلاثة عقود كان يتطلع الى يوم سقوط الصنم ولو بيد صانعه الاستعماري، وحين تهدمت أركان الاستبداد إستعاد روحه المسلوبة، وإنتفض في وجه الاستعمار، وأجاب عملياً على أولئك المشككين في موقفه المبدئي والمتهمين إياه بالتواطىء مع الاستعمار ضد وطنه، ليبلغهم برسالة واضحة بأن من أمّلتم به خيراً لم يكن سوى طاغوتاً من ورق، فكشف لهم زيف الاتهام وخطأ المتهمين.

لهذه الأسباب، نتمنى أن يزول الاستبداد على من رعاه، وتكفل بسقايته وأمدّه معنوياً ومادياً، لأن زواله سينفخ روحاً جديدة في أجساد أنهكها الاستبداد وجيوشه، وأن زواله سيصنع أملاً جديداً في مجتمعات هدّها الاحباط المتواصل من أنظمة لم تحقق أثراً الا على أجساد أبنائها.. فليزل الاستعمار مخلفاته وأهمها الاستبداد وحينئذ ستتكفل الشعوب بإزالة الاستعمار.