وهم القوة

 

 حين شنّت الولايات المتحدة خوض الحرب على العراق في العشرين من مارس الماضي، قررت الانفراد بمشروع ما أسمته بـ "حرية العراق"، فاستبعدت قوى المعارضة العراقية أو التنسيق مع دول اقليمية مجاورة للعراق فضلاً عن توفير غطاء شرعي دولي إستناداً على استحصال تسعة الأصوات الضرورية لقرار الحرب. مصادر المعارضة العراقية تؤكد بأن قيادة القوات الأميركية فعلت كل ما من شأنه تحييد أي دور لقوى المعارضة في مشروع التحرير، ظنّاً منها بأنها قادرة بصورة منفردة على فعل ما تريد وتقرير مصير العالم بأسره دون الرجوع أو مساعدة أحد.

وهم القوة هذا بددته بسالة الشعب العراقي الذي فاجأ القوات الغازية، مما أطاح بحلم النصر المنجز سلفاً والجدول المرسوم لسير الحرب، فقد تبدّلت خطة احتلال ام قصر أربع عشرة مرة، وتزايد عدد الجنود التي قررت قيادة قوات التحالف ارسالهم الى العراق من 30 ألف الى 120 ألف فيما تم تخصيص مبالغ إضافية لميزانية الحرب.

الجرحى في مستشفى القاعدة العسكرية الاميركية في ألمانيا، وأسرى الحرب الاميركيين، وجنرالات الحرب في قوات التحالف يجمعون على "صدمة المقاومة" التي أدهشتهم وهم يتوغلون في أرض العراق. حقل مفاجآت كان ينتظر القوات الغازية في هذا البلد الذي لم يعد فيه ما يمكن وصفه بجيوب موالية لحرب العدوان. لقد توّهم قادة التحالف بأن العراق سيفتح ذراعيه لقوات التحالف وسيرفعون أصواتهم مكبّرين ومهللين لقدوم "المخلص الأنجلوأميركي". وفيما يبدو أن "كتبة التقارير" الاستخباراتية لم يلتزموا الدقة في قراءة سيكولوجية الشارع العراقي، فأوهموا صانعي القرار بأن مجرد إختراق الحدود العراقية سيؤول الى انتفاضة شعبية من الجنوب الى الشمال ستخنق طاغوت بغداد وتطيح به للأبد. وهذا لم يحصل، والسبب واضح فهذا الشعب كما الشعوب العربية والاسلامية تكره حد الحقد الأجنبي القادم ببزة عسكرية، فمهما جمّل مهمته فهو في نظرهم محتل مستعمر، لا لأنهم راضون عن طاغوتهم، فتاريخه الدموي معروف للقريب والبعيد، ولكن لأن زوال طاغوتهم لا يكون على أيدي عدوهم، قياساً على حديث شريف "لا يطاع الله من حيث يعصى". فلا يمكن تصوّر أجنبي يدير أمر هذا الشعب، أو يفرض عليه قرضاياً بهوية عراقية ولكن بجواز أميركي.

في عام 1991 شهدت محافظات العراق إنتفاضة شعبية عارمة تديرها قيادات محلية وبأهداف وطنية ودينية وتسير لغاية شريفة نزيهة، ولكن أعاقتها قوات التحالف نفسها التي تعلن الآن الحرب على العراق، لماذا؟ لأن تلك الانتفاضة لا تصب في قناة المصالح الاستراتيجية الاميركية.

القوة الموهومة التي ساقت القوات الانجلوأميركية الى العراق قد سقطت على يد شعبه قبل جيشه، فلا يمكن للتغيير أن يتم دون حساب العامل الحاسم فيه وهو الشعب.

وحتى لو قدّر لمصير الحرب أن يأتي وفق أهداف قوات التحالف، وسقط النظام العراقي، وظهر المتحالفون بالسر مع الولايات المتحدة للعلن، وتدفقت المساعدات الدولية بأموال العراق الى شعب العراق، فإن القبول بإدارة أجنبية لحكم العراق يبدو وهماً مستحيلاً.

في أعقاب ثورة العشرين، جرت محاولات لفرض إدارة إنجليزية على العراق، وتم توزيع استفتاء للشعب العراقي من قبل الانجليز يتضمن القبول بحاكم إنجليزي عليهم، فصدرت فتوى شرعية من المرجع الشيعي الأعلى في كربلاء الشيخ محمد تقي الشيرازي بحرمة انتخاب غير المسلم لحكم العراق. فاضطر الانجليز في نهاية الأمر للقبول بتعيين حاكم عربي من البيت الهاشمي، أي الملك فيصل.

اليوم، وبعد أكثر من ثمانين عام على ثورة العشرين، يستبد الشعور الوهمي بالقوة لدى الادارة الاميركية فتكرر التجربة الفاشلة التي وقع فيها الانجليز. لم يفد الأميركيون من تجارب الانجليز في بلاد الشرق، ولم يفيدوا أيضاً من طريقة كتابة التقارير أيضاً، ولعل أخطر الدروس التي لم يتعلمها القادة الأنجلوأميركيون هو أن الشعوب لا تُقهر بإرادة أجنبية.