رهانات المستقبل

مسيرة التغيير السياسي في المملكة في مرحلة ما بعد الحرب

حمزة الحسن

لماذا لم تستجب الحكومة السعودية لموضوع الإصلاحات السياسية قبل أن تبدأ الحرب، لأن بعض الآراء كانت تتجه الى أن السعودية ستتعرض لضغط أميركي شديد بعد أن تنهي حملتها على العراق. وفي هذه الحالة ستكون بيد الأميركيين حجة بأن النظام السعودي ديكتاتوري يرفض الإصلاحات ويرفض تغيير مساره الثقافي ولم يتعاون مع المنظمات الدولية الخ.

بيد أن للعائلة المالكة وجهة نظر أخرى.

في هذه المقالة رؤية استشرافية لمسيرة الإصلاح في المملكة.

 فقد أرادت العائلة المالكة في تأجيلها لخطوة الإصلاح أن تتأكد من حقيقة الضغط الأميركي واختبار جديته فيما بعد الحرب، على أمل أن يخف زخم الدعوات للديمقراطية داخلياً مع تضعضع النموذج الأميركي ومنتجاته وجاذبيته بسبب الحرب. ولربما تستطيع العائلة المالكة إقناع الشارع السعودي آنئذ بأن المستهدف أميركياً ليس الديمقراطية والإصلاح وإنما تفتيت الدولة وسرقة خيراتها، وبالتالي فإن التغيير لا يحب أن تكون له الأولوية سواء لدى المواطنين أو لدعاة الإصلاح.

ومن الرهانات الحكومية السعودية، أن تتورط أميركا في الحرب على العراق، أو تخرج جريحة منها حتى وإن حققت أهدافها بإزاحة صدام حسين، وهذا يجعلها تراجع سياسات الفرض التي تنتهجها تجاه الدول وبينها السعودية، ومن ثم تنجو الحكومة السعودية من التغيير المطلوب، أو في أقل الأحوال تقبل الولايات المتحدة من السعوديين تغييراً شكلياً وتعود لسياساتها القديمة وتقتنع بالحجة السعودية بأن الإصلاح ليس في صالح أميركا ولا النظام معاً وأنه قد يأتي بالأصوليين الخ.

أسوأ السيناريوهات السعودية هي أن تأتي الحرب بانتصار ساحق يبقي سيف الدعوة للإصلاح الأميركي مصلتاً على الأمراء السعوديين، وفي هذه الحالة ستتأكد الحكومة السعودية من جديّة التهديد الأميركي وستبادر الى الإصلاح بصورة سريعة.

 

ضغوط الداخل

 

في تجربة ما بعد حرب تحرير الكويت، لم تقدم الحكومة السعودية عزمها الفعلي لإقرار الأنظمة الثلاثة إلاّ بعد أن توضحت تداعيات الحرب على الجبهة الداخلية فجاءت الأنظمة بعد أكثر من عامين (مارس 1993) في جوء مشحون بالأزمات الداخلية وبعد ارتفاع وتيرة المطالب بالإصلاح بشكل علني على شكل مذكرات وعرائض متكررة وكتابات سياسية في الداخل والخارج تقوم بتغذيتها. وهذا يفيد بأن الرهان السعودي على التحالف مع اميركا وإعادته الى الوضع القديم بما يمنع الإصلاح، لن يفيد إذا ما تطور الوضع الداخلي السعودي وضغط في اتجاه التغيير.

السؤال: ما هو الشكل الذي ستأخذه الدعوات الى الإصلاح، وما هي المحفزات الإضافية التي يراهن عليها؟ السؤال بصورة مختلفة يمكن أن يوضع كالتالي: هل تأتي نتائج الحرب في اتجاه يعزز الإصلاحات؟

هناك من يراهن بأن النتائج كيفما كان شكلها ستأتي بالتغيير رغماً عن النظام. وهناك من يراهن على انتصار أميركي يفضي الى المزيد من الضغط على الأمراء السعوديين. وهناك من بين الأمراء من يراهن على تورط وخسائر أميركية تعيد اللحمة بين الطرفين السعودي والأميركي الى سابق عهدها وتمنع الإصلاحات.

بعيداً عن الممانعة الملكية والرغبة الشعبية للإصلاح هناك حقائق ستفرضها الحرب لا بدّ أن يكون لها أثرٌ ما على مسيرة الإصلاح السياسي في المملكة:

1 ـ شكل الوضع الدولي بعد انتهاء الحرب. بمعنى كيف سيكون "النظام العالمي الجديد" وكيف يعمل.. ما هو موقع الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟ هل يتم تجاوزهما الى قيام نظام جديد أم يجري تعديلهما وفق إرادة المنتصر الأميركي (سواء كان انتصاره ساحقاً أم لا)، وكيف سيكون شكل العلاقات الدولية خاصة بين الدول التي تمتلك الأسلحة النووية، او الدول الصناعية الكبرى، بما في ذلك اليابان وألمانيا والهند. لربما تكون الحرب على العراق آخر الحروب إما بسبب ظهور أحلاف وتكتلات مقاومة للهيمنة الأميركية، أو ـ إن خرجت أميركا بكلفة عالية ـ برغبة ذاتية تعكس نتائج الحرب على الأرض، مما يملي بعض الإنكفاء والرشد على النهج الأميركي الذي يميل الآن الى عدم الإهتمام بأي دولة وأي قوة وأي سلطة في العالم عدا سلطة القوة. في هذه الحالة قد تنقذ بعض الأنظمة نفسها في حال ظهور قطبية جديدة (أوروبا مقابل أميركا) أو تحالف جديد (أوروبا وروسيا) مقابل أميركا، مما يتيح لتلك الأنظمة متنفساً وهامشاً للمناورة.

2 ـ ما هي الأعباء الإقتصادية التي ستتحملها المملكة من الحرب؟ قد لا تكون هناك أعباء مباشرة كتلك التي كانت في أزمة الكويت، والتي ادّت إلى إضعاف النظام في الداخل بسبب فقدانه للسيولة المطلوبة لتهدئة الوضع الداخلي ومنع المطالب السياسية من النمو على السطح. هذه الأزمة الجديدة قد لا تفرض على الحكومة أعباء تكاليف الحرب، وقد لا تساهم في حال تغير النظام في ما يمكن تسميته "إعمار العراق" أو تساهم فيه بشكل محدود، ربما أقلّ مما جرى بالنسبة لأفغانستان، مع أن هذه المساهمة في حال حصولها "استثمار" سياسي و"عربون" صداقة مع النظام الجديد في العراق، وتناغماً مع السياسة الأميركية أملاً في تخفيف ضغوطها القادمة.

الوقائع تشير الى استفادة سعودية ضخمة من الأزمة الحالية من حيث انتاج نفطي هائل وأسعار زادت على الثلاثين دولاراً للبرميل (تراجعت في الآونة الأخيرة).. وستتأرجح الأسعار حسب المعارك ومؤشراتها وحسب مدّة الحرب، فكلما طالت الحرب سترتفع الأسعار، وسيزيد الإنتاج السعودي بناء على اتفاق مسبق مع الولايات المتحدة لتلبية الطلبات العالمية وتهدئة لسوق النفط الحساسة من الحروب.

بيد أن هذه المكاسب المؤقتة التي لا يرجح أن السعوديين سيستفيدون منها الإستفادة المثلى ـ كما هي العادة ـ سواء في تخفيف حجم الديون أو في ضخ بعض العافية للإقتصاد وإنعاشه.. هذه المكاسب سيفقدها الإقتصاد السعودي بمجرد أن تضع الحرب أوزارها أو تميل الى النهاية، وهناك توقع بأن تشهد أسعار النفط "مذبحة" لأسعار قد تصل الى 13 دولاراً للبرميل. في هذه الحالة سيعاني الإقتصاد السعودي من صعوبات كبيرة مع تدني المداخيل، وبالتالي الإنفاق الأمر الذي سيزيد من تعقيد الوضع الإقتصادي والإجتماعي وانعكاسهما على الأوضاع الأمنية والسياسية. بكلمة أخرى، ستكون الأوضاع الإقتصادية في مرحلة ما بعد الحرب خادمة على المدى البعيد لتهيئة ظروف الإصلاح السياسية، أو بالأصح ضاغطة على العائلة المالكة للتنازل السياسي.

3 ـ لن تكون العائلة المالكة ولا الدولة السعودية في مرحلة ما بعد الحرب "أثيرة" لدى الولايات المتحدة، وهي ـ أي العائلة المالكة ـ لا تأمل بأكثر من إبعاد الضرر عن نفسها، وإن تطلب الأمر تنازلات سياسية واقتصادية وغيرها للأميركيين. من الواضح ان مركز الثقل والإهتمام الأميركي سيتحول (إضافة الى إسرائيل) الى العراق لخلق نموذج يحتذى به، كما تقول وسائل الدعاية الأميركية. والعراق بما يمتلك من طاقات سياسية وبشرية قادر على أن ينتزع الصدارة السياسية في منطقة الشرق والخليج العربي من السعودية.

بعيداً عن العامل الخارجي ودوره في دفع عجلة الإصلاح، فإن مجرد فقدان الأمراء السعوديين لحليف يتكؤون عليه يجعلهم أقلّ قدرة في مقاومة الضغوط المحليّة.

4 ـ إن الرغبة في الإصلاح لن تموت لأنها مخالفة لطبيعة البشر، وهناك اعتراف رسمي بأن الإصلاح أصبح ضرورة رسمية وليس مجرد رغبة شعبية. ومعنى هذا إن هناك مشكلة متأصّلة تبحث عن حل، سواء قبل أمراء العائلة المالكة ذلك أم لم يقبلوا. ونتائج هذه الرغبة ستنعكس على مجمل الحياة اليومية للمواطن، وعلى علاقته مع القيادة السياسية. أي أن المراهنة على موت الرغبة تلك لا يتم بقمعها، ولا بالتنكّر لها. ربما يمكن تزييفها، أو الإلتفاف عليها عبر تلبية المطالب والحاجات الإقتصادية الملحّة، وهذا الإلتفاف صعب الآن وأيضاً في مرحلة ما بعد الحرب.

وملخص القول إن التغييرات في المملكة قادمة، ولكن سرعة تطبيقها وحجمها رهينان بنتائج الحرب ومدتها، كما بحجم الضغوط الداخلية الشعبية التي ستتأثر نفسياً واقتصادياً بنتائج الحرب.