الورقة الأولى

 الهوية والحرب والحشد الجماهيري

 

واحدة من أهم وظائف الهوية الوطنية قدرتها على الحشد الجماهيري وراء النظام السياسي (سواء كان منتخباً أم غير منتخب) وللدفاع عن الوطن الذي يمثل كرامة الشعب. وظيفة الحشد هذه يمكن للدين والهوية الدينية أن تقوم بها كما أثبتت تجارب التاريخ في العالم الإسلامي في مقاومته للإستعمار.

يرى البعض أن الهوية الدينية القوية تضعف الهوية الوطنية، والعكس صحيح، وهذا رأي يتبنّاه النظام السياسي في المملكة والمؤسسة الدينية الرسمية (الوهابية). فهذان يتبنيّان الرأي القائل بأن الوطنية نقيض للدين، وأنها تضعف المؤسستين السياسة والدينية الحاكمتين الآن، لأن الروح الوطنية قادرة على إنتاج ثقافة مختلفة تشرعن الإختلاف وتدعو للتنافس السياسي وتحصيص السلطة، أي أنها تدخل لاعبين جدد يقتطعون حصتهم من الطرفين.

الرأي الآخر يقول بأن الوطنيّة كهوية وروح قادرة على الحشد في المجتمعات ذات التعدد الديني (مسيحيين ومسلمين كما في لبنان ومصر والسودان مثلاً) فهي قادرة على التسامي على التباينات الدينية في حين تلعب الهوية الدينية هنا دوراً تمزيقياً للنسيج الإجتماعي.

الرأي الثالث يعتقد بأن الدين مكوّن أساس للهوية الوطنية، فهو قادر في المجتمعات الإسلامية على تجسير الفجوات الأثنية لو أُحسن الرجوع الى مبادئه سواء بين الأكراد والعرب كما في العراق، والبربر والعرب كما في الجزائر والمغرب وهكذا. وهو ـ أي الإسلام ـ قادر على أن يكون في أُلفة مع الأديان الأخرى إن وجدت، عبر احترامه لها واعترافه بها كمكوّن للهوية الوطنية أيضاً.

المشكلة التي تواجه المملكة ليست في تغليبها لخيار الهوية الدينية بشكلها المتعصّب والحادّ ضد الهوية الوطنية وعدم قدرة المذهب الرسمي (الوهابية) على التصالح معها أو اعتبارها ذات قيمة في الأساس. المشكلة الحقيقية أن الوهابية لا تستطيع أن تحشد الجمهور في المملكة في مواجهة الأخطار التي تواجهها كما لا تستطيع توفير الحماية للنظام من الأعداء الداخليين عبر شرعنته، مادام مذهباً لا يمثل أكثرية السكان، ومادام مذهباً متصادماً بحدّة مع مذاهب أخرى قائمة وثابتة لا يعترف بها.

لهذا السبب، يفقد الإسلام (بطبعته الوهابية) القدرة على تحشيد الشارع السعودي، بل هو أداة لتمزيقه كما هو واضح اليوم. ولخصائص المذهب الرسمي المناطقية (في قيادته وأفكاره ورموزه ونشأته وتراثه العدائي) فإنه لم يستطع ولن يستطيع حشد الشارع في المناطق الأخرى خارج نفوذه وبيئته. بل أن الهوية الدينية وفق التفسير الديني الرسمي لم تستطع حتى الآن التغلّب على الروح العنصرية بين السكان، ولا على التمايزات القبلية بشكل نهائي.

المملكة اليوم تعيش بشعب غير منسجم في واقعه، إن لم نقل ممزّق، فالهوية الوطنية ضعيفة للغاية تكاد تكفي بالحدود الدنيا لحاجة الدولة للبقاء موحدة في ظروف السلم والهدوء والرخاء، وفي حال تغير ذلك لا تستطيع هذه الهوية أن تقدّم شيئاً كثيراً. أما الهوية الدينية فلأنها تحوّلت الى هويّة مذهبيّة طائفية شمولية، فلم تعد ذات قيمة، إن لم تكن معول هدم، بدل أن تكون أداة تحشيد وانسجام.

الحرب في العراق تعتبر ميدان اختبار للهويات وفعاليتها، فيما المسؤولون في المملكة يتخبطون وتتناوشهم الوساوس حول مستقبل النظام السياسي وما إذا كان السكان سيقفون مع نظام الحكم أم لا وعلى أساس أي قاعدة.