الإصلاح بديلاً عن العنف والتدخل الأجنبي

رؤية إصلاحية لقيام مشروع وطني في المملكة

حمزة الحسن

لم تتبلور في المملكة حتى الآن بؤرة وطنيّة تعبّر عن الشأن الوطني العام، وتلتقي فيها وحولها الآراء والأفكار والطموحات بحيث تشكل البديل الشعبي المقابل للنخبة القائمة.. البديل الذي يستطيع أن ينافح عن الحقوق الشعبية بجرأة ويقف على أرضيّة صلبة من تمثيل كافة التوجهات والمناطق. حتى الآن، تظهر بين الآونة والأخرى قوائم أسماء مختلفة تطالب بالإصلاح، وفي بعض الأحيان تعبّر عن توجهات مناطقية أو فكرية محددة (في الغالب سلفية).. ولكن الرأي العام الشعبي يتطلّع الى وجود نخبة تتمحور حولها المطالب وتلتقي عندها كل التيارات.

إن تبلور نوع من القيادة الشعبية ضرورة ملحّة لفرض الإصلاحات على النخب التقليدية المترددة، كما أن الخروج من شرنقة الفئوية والمذهبية صار أمراً حتمياً إن أريد لهذه الدولة السعودية البقاء بكامل سيادتها، والعائلة المالكة رمزاً لوحدتها وكرامتها ورفاهية شعبها. والخروج يفرض حتمية الدخول في الفضاء الوطني وتكوين عقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم، كما ويفرض شروطه الموضوعية التي تحدّد أهدافه ووسائل تحققها.

ملامح المشروع الوطني

يجب أن تلتقي النخب المثقفة المتصدية للإصلاح على أرضية التغيير، ووفق مشروع وطني يقبل بالحدود الدنيا أملاً في تحقيق إجماع شعبي واسع. وفيما يلي بعض الملاحظات بهذا الشأن:

أولاً ـ يفترض في المشروع الوطني أن يقرّ بثوابت أساسية لا يستقيم بقاء الدولة بدونها: مثل دور الدين في الدولة بإطاره ورؤاه العامة (وليس وفق الرؤية الوهابية الخاصة) بغض النظر عن حجم هذا الدور والشكل الذي سيأخذه. تأتي أهمية دور الدين من جهة كون المملكة حاضنة للمقدسات الإسلامية في الحجاز، وكذلك دور الدين/ المذهب في نشأتها الحديثة، وهذان أمران يحتّمان على المملكة دوراً ريادياً في الداخل والخارج. والثابت الثاني هو دور العائلة المالكة كرمز لوحدة المملكة والتي لا يتخيّل بقاؤها أو استمرارها موحدة (ضمن الظروف الموضوعية الحالية) بدونها. ومرة أخرى نقول هذا بغض النظر عن حجم السلطة الذي يمكن أن يُعزى لها وفق المنظور والمصلحة الوطنية.

وثانياً ـ أن يقرّ بمبدأ الإجماعية لا الإقصائية القائمة على الثأر أو الجشع والإستئثار، وهذا يتطلّب المساواتية بين المواطنين وتعزيز مبدأ (المواطنة) ونبذ الفئوية والجهوية، وترسيخ الهوية الوطنية الجامعة وتسويدها على الهويات الفرعية الطائفية والمناطقية والقبلية، أي التعاطي مع المواطنين كشركاء متكافئين في الحقوق والواجبات لا تنتقص انتماءاتهم الفرعية حقوقهم المادية والمعنوية. وكما يحدث للأفراد، الذين هم جموع الشعب، يفترض في أي مشروع وطني يسعى لترميم العلاقة بين السلطة والقوى الإجتماعية والسياسية المختلفة، أن تتسالم هذه القوى، وتعترف بحقوق بعضها البعض في التعبير والممارسة والمشاركة في صناعة القرار.. بدون هذا سيتحول المشروع الوطني الى مشروع إقصائي، شأن القائم حالياً.. إقصائي للشعب بمجمله عن حقوقه الأوليّة، وإقصائي للقوى المختلفة والمعترضة على الإستئثار الديني والسياسي. ويأتي هذا انطلاقاً من الإعتراف بحقيقة التعددية لمجتمع المملكة، والنظر اليه من زاوية إيجابية ودالة على الثراء المعرفي والتنوع المفيد لا الممزق.

ثالثاً ـ يفترض في المشروع الوطني تشخيصه للأزمة التي تعاني منها المملكة على أنها أزمة سياسية نابعة أساساً من مشكلات بنيوية في هيكل السلطة، أدّت الى الإحتكار السياسي والديني، وانعكست بالسلب على مصالح الشعب الذي لم يكن مساهماً في الأساس (اللهم إلا من زاوية صمته) في نتائج ما هو حاصل من فساد وسوء إدارة وتدهور علاقات مع الخارج العربي والدولي وتفاقم للمشاكل المحلية وانتقاص من حقوق المواطن المادية والمعنوية. بكلمة أخرى، إن المشكلة الأساسية تكمن في الإستبداد السياسي المتصافح مع الإستبداد الديني، والذي أدّى في مخرجاته الى أزمة في العلاقة بين الدولة والمجتمع. إذا كان هذا التشخيص صحيحاً، فإن هدف المشروع الوطني يتلخّص في قطع دابر الديكتاتورية السياسية والدينية، دونما افتئات على حقوق أحد في التعبير والمشاركة في الصالح العام.

إن إرتهان النظام السياسي للوهابية وما جرّ إليه، سببه ذلك الإحتكار الذي تحدثنا عنه، وذلك التخلخل في التوازن السياسي داخل المجتمع السعودي نفسه، حيث أقليّة متحكّمة وأكثرية مهمّشة. ومن هنا فإن توزيع السلطة بشكل متوازن، ووفق آلية مرجعية يتفق عليها، يخرج الدولة من ارتهاناتها لجماعات أو مذاهب واجتهادات وأفكار أو مناطق ومصالح ضيقة، ويمنع تحوّل مؤسساتها الى مؤسسات نفع خاص، ويوسع هامش الحرية والمناورة لمسؤولي الدولة ويعدد من خياراتهم في منهجهم السياسي الداخلي والخارجي. بهذا تستقيم أمور الدولة، وتستقر المصالح لكل الفئات، وتتعزز الثقة بالدولة وأجهزتها وبين رجال النظام والجمهور، وتتآلف الشرائح الإجتماعية المتنافرة والتي طال تلاعب الطاقم الحاكم بضرب بعضها ببعض من أجل تكريس مفاهيم السيطرة والإستئثار.

رابعاً ـ إن مقاومة الضغوط والتهديدات الخارجية (الأميركية بوجه خاص) لا تتأتّى بدون إصلاح الجبهة الداخلية، كيما تكون فاعلة في المقاومة ورافدة للجهد الرسمي. فبإصلاح الوضع الداخلي تتساقط الكثير من الحجج الأميركية مثل: وجود معامل تفريخ الإرهاب، وغياب حقوق الإنسان والحريات السياسية والديمقراطية، وشيوع الإستبداد، وهدر حقوق المرأة، وغير ذلك. ستسقط بالإصلاح مبررات الرغبة الداخلية النازعة باتجاه الإنفصال، وكذلك الرغبة في التغيير الجذري الذي يستهدف (إسقاط النظام)، ولن يجد الأميركيون ولا غيرهم أُذُناً سميعة لمشاريعهم التقسيمية والتحريضية.

لا يمكن لنظام الحكم في المملكة أن يواجه الآن الضغوط العظيمة وحيداً، أو مدعوماً من الوهابية وأتباعها فحسب، أو اعتماداً على شعب مفكك تتجاذبه الولاءات والمصالح الخاصة، أو بشعب حُقن منذ وعى نفسه بأن شؤون الحكم لا علاقة له بها، ثم وبشكل مفاجئ يراد منه أن يدافع عن نظام وأشخاص وأن يتفهم المبررات وهو المسكون بالسلبية والخوف من اقتحام السياسة وتعاطيها. النظام الحاكم اليوم لا يستطيع أن يقاوم حتى الضغوط القليلة اعتماداً على شعب مسلوب الإرادة السياسية، ومشغول بمعاركه الطائفية والقبلية الداخلية، ومحكوم بصراع نخبه التحديثية مع التقليدية.

وفي ظلّ سيادة منطق أميري يصرّ قولاً وعملاً على أمرٍ ثابت البطلان بأن المملكة بأراضيها وتراثها وخيراتها ملك شخصي لفرد أو عائلة، إن منحت كان فعلها مكرمة، وإن منعت لم تكن مقصّرة، وإن اقتحم أحدٌ التابو السياسي عدّ معتدياً على حقوق العائلة المالكة وخاصتها. المواطنون لا يدافعون عن وطن ونظام هذه صفاته. الوطن بدون حقوق يتقلص في المخيال الفردي الى مجرد قرية أو مدينة أو محافظة وفي أكثر الأحوال منطقة، قد تستثار الحميّة حين يعتدى عليها، أما المملكة ـ وطن الأوطان ـ فلا تستثير الرغبة في شرف الدفاع عنها. هذا الوطن الكبير لا يحميه إيمان طوباوي إلاّ إذا تحوّل الدفاع عنه دفاعاً عن النفس، ولن يكون كذلك ما لم يشعر قاطنوه بأنهم شركاء فيه، صنّاع لقراراته وسياساته، تحفظ فيه كرامتهم، فمن لا كرامة له لا يحمي كرامة وطنه أثناء الأزمات.

باختصار.. إن المشروع الوطني الإصلاحي الداخلي هو الخطوة الأولى للدفاع عن الوطن وعن الخيار السياسي لأبنائه.. الخيار الصحيح لا المزوّر أو المدّعى.

خامساً ـ يفترض المشروع الوطني أن يكون التغيير سلمياً، متدرّجاً، شعاره: لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم، أي أن يكون بأقلّ الكلف، ومنهجه في هذا بعد الإقتناع بضرورته، الحوار والمساومة السياسية بديلاً عن العنف: عنف السلطة، وعنف دعاة التغيير. من خلال المؤشرات الحالية، فإن هناك إجماعاً شعبياً على ضرورة القيام بإصلاحات، وأن تكون الوسائل المؤديّة إليه سلميّة في مجملها، مع أن مؤشرات استخدام العنف ـ هي الأخرى ـ واضحة. غير أن المؤشرات تعوزنا فيما يتعلق بالعائلة المالكة، إن من جهة اقتناعها بضرورة التغيير، أو حجمه، أو الوسائل المعتمدة في حال مال الرأي الى رفضه.

العائلة المالكة: هل قرأت الأوضاع بشكل صحيح؟

هذا لا يعني أن الإصلاح بالضرورة يأتي من أعلى، أي بتنازل من العائلة المالكة. فإذا كانت تحتفظ بمجمل القرار، فإنها لا شك ترى الأوضاع، وإن كنّا لا نعلم هل قرأتها القراءة الصحيحة. لكي يكون الإصلاح سلمياً لا بدّ أن يقرأ الطاقم الحاكم الوضع الداخلي بصورة واقعية وهي تشير الى رغبة شعبية عارمة للتغيير، والى الضيق والتذمّر الشديد من سوء الأوضاع الإقتصادية التي طالت حياة كل مواطن، وإلى تنامي النزوع نحو العنف من اغتيال وتفجير واختطاف ومحاولات تظاهر وتمرد في السجون وانهيار في المعنويات وضعف في أداء أجهزة الدولة وانخفاض هيبتها. لا بدّ أن تقرأ العلاقة بين العائلة المالكة والوهابية بصورة صحيحة، إذ لم نرَ من العائلة المالكة، حتى الآن، سوى القليل المتغيّر فيها، والذي لا يصبّ إلا في التكتيكات الآنيّة وليس في ابتداع منهج استراتيجي جديد يجيب على التساؤلات الحادّة بشأنها: ما حجم دور المؤسسة الدينية في الدولة، هل هناك خطر عليها وعلى نظام الحكم في المستقبل، والى أي حدّ هي مفيدة أو مضرّة للتآلف الإجتماعي الداخلي، وكيف يمكن تفعيلها بهذا الإتجاه، وماذا عن القوى الدينية الأخرى وما موقعها من الإعراب..الخ.

وتفترض القراءة الصحيحة للوضع الداخلي أيضاً والتي تقرر ما إذا كان النظام يميل الى التغيير (والتغيير السلمي بالذات) أم لا، تفترض تقييماً للقوى الأخرى المهمّشة في شمال وجنوب وشرق وغرب المملكة، الى أي حدّ يشكل سخطها خطراً على بنية الدولة، وما هي تطلعاتها، وكيف يمكن المواءمة بين مطالبها ضمن إطار الدولة، وما هي البدائل التي بيد تلك القوى للضغط على النظام إذا ما تعسّرت ولادة عقد وطني جديد، والى متى يمكن لهذه القوى أن تصمت أو يمكن إخراسها، وبأي الوسائل وحدود استخدامها، وما هو تأثير ذلك الإستخدام في المدى القريب والبعيد، وانعكاس ذلك على سمعة المملكة وعلاقاتها بالخارج الدولي.

المسألة الأخرى التي يجب أن تقرأ بصورة صحيحة: صورة العلاقة المستقبلية مع الغرب بشكل عام، فهل تنظر القيادة السعودية الى توتر العلاقة مع أميركا تطوراً استراتيجياً يفرض عليها حماية نفسها بوسائل مختلفة، وترتيب بيتها الداخلي ومنظومة علاقاتها الخارجية وفق هذه الرؤية، أم أنها ترى في التوتر مجرد سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع بمزيد من التنازلات، والى أي حدّ تكون، وهل بإمكانها البقاء طويلاً تحت ضغوط الإبتزاز والتهديد ريثما تعود الأمور الى سابقها. بمعنى كيف تقيّم العائلة المالكة ما حدث، وكيف تقيّم الرؤية الأميركية للسعودية في الوقت الحالي وفي المستقبل. بعد هذا تأتي قراءة رجال الحكم السعودي للخارطة الإقليمية المستقبلية وتأثيراتها على الوضع الداخلي: ما تأثير التغيير القادم في العراق ـ إن حدث ـ على سيادة الدولة السعودية ووحدتها، وعلى شعبها، واقتصادها، والعقيدة العسكرية لجيشها. أيضاً، ما هو تأثير انتعاش أنوية الدمقرطة والإنفتاح في كل البلدان المجاورة الخليجية وغيرها على النظام السياسي السعودي، وعلى تطلعات السكان، وعلى العلاقة بين الحكم والمحكومين.

أسئلة كثيرة جداً تشكل المنطلق والاساس الذي يمكن للعائلة المالكة التي تبني عليه اجاباتها الحاسمة إما باتجاه الإقدام على التغيير أو المضي على الحال التي هي عليه. من المؤكد أن أكثر هذه الأسئلة لم يجب عليها، ولا يملك الطاقم الحاكم رؤية واضحة عنها، فالسياسة في المملكة ومنذ زمن بعيد تعتمد ردود الأفعال تجاه الأحداث، ولا يوجد في المملكة بطولها وعرضها مركز دراسات واحد يقدم إجابات لتساؤلات المستقبل ويقترح الخطط والمشاريع السياسية. حتى مجلس الدراسات الوحيد التابع للديوان الملكي لا يعدو مجرد إسم وضع لتوظيف أمير، بدون موظفين وبدون أي فعل حقيقي أياً كان نوعه.

لا نعلم الى أي حدّ اقتنعت العائلة المالكة بفضيلة عدم التشبّث بكامل السلطة وأن الأوان قد حان للإعتراف المبدئي بأن الشعب ليس قطيعاً لا حقّ له حتى في قوته، كما لا نعلم ما إذا كانت تدرك بأن عواقب الحسابات الخاطئة مكلفة: مزيد من العنف الداخلي؛ انهيار لمؤسسات الدولة؛ تعزيز لمشروع التغيير الجذري وضرورة إقتلاع العائلة المالكة باعتبار وجودها لا يستقيم والإصلاح، أو التغيير الإنفصالي عبر تقسيم الدولة بالتعاون مع الطروحات الخارجية. مما لا شكّ فيه، أن فكرة الإصلاح لم تنضج بعد لدى الأمراء، وإذا كان البعض منهم قد اقتنع بضرورته، فإنهم يعتبرونه شرّاً لا بدّ منه الأمر الذي يتطلب التحايل على الداعين اليه بتقديم أقلّ التنازلات الممكنة. ربما هناك رؤية تفيد بأن الوقت لم يحن بعد، وكأنّ هناك دعوة لاستدعاء المزيد من التوتر والعنف الداخلي حتى يتاكّد الأمراء بجمعهم أن لا محيص من الإصلاح. ربما أيضاً هناك من بين الأمراء من يعتقد بأن دعوة الإصلاح مجرد فورة ستؤول الى الانطفاء وليس لمزيد من الاشتعال، وأن المطالب الشعبية الحالية رغم تدنيها ـ وهي مرفوضة من قبل الطاقم السياسي ـ يمكن تقليصها أكثر فأكثر. هذا باختصار وهم، بل عكسه تماماً هو ما سيقع.

حجم الإصلاحات المطلوبة

الرؤية السائدة بين النخب السعودية تستند على ضرورة تقليص وتأطير صلاحيات العائلة المالكة ضمن فكرة تحويل النظام السياسي الى ملكية دستورية خلاف ما هو عليه اليوم من ملكية تسلطية مطلقة. للوصول الى هذا الغرض، هناك متطلبات أساسية منها:

** تحديد حجم السلطة الممنوحة لرجال العائلة المالكة. وفي هذا المجال هناك رأيان متداولان بين النخب السعودية: الأول يرى بأن العائلة المالكة تكتفي بمنصبي (الملك وولاية العهد) والإشراف العام على جهاز الدولة عبر تعيين رئيس مجلس وزراء ووزراء من خارج الأسرة المالكة، على النحو الذي نشهده الآن في المغرب والأردن. أصحاب هذا الرأي يعتقدون بأن فصل رئاسة الوزراء والوزارة عن الملك ليتولاها أشخاص من عامة الشعب يحقق أمراً في غاية الأهمية وهو إبعاد العائلة المالكة عن الإنغماس في المشاكل الداخلية وتحمّل أخطائها بحيث لا ينعكس ذلك على سمعتها ورمزيتها. فبقدر ما يكون بيد الأمراء من سلطات تكون هناك أخطاء، لا يتحمّلها أحدٌ سواهم، سواء أكانوا وزراء أو أمراء مناطق. فتقليص المسؤوليات المباشرة للعائلة يلقي اللوم بالتقصير على رئيس وزراء ووزراء من العامّة، وليس على العائلة المالكة، وبإمكانهم أن يعزوا الفشل الى هؤلاء فيغيّر الوزير أو رئيس الوزارة دونما حرج. في حين أن رأياً آخر يقول بأن تبقي العائلة المالكة بيدها ـ إضافة الى ما ذُكر ـ رئاسة الوزارة ووزارات السيادة: الدفاع والداخلية والخارجية، كما هو حاصل في الكويت. والخلفية السياسية وراء هذا تبرر الأمر بأن العائلة المالكة لن تقدم على إصلاحات دون أن يكون لديها ضمانات من نوع ما بأن لا تنقلب العمليّة الإصلاحية ضدّها فتجردها مما في يدها من سلطات، ووجود وزارات السيادة بيدها يمنحها الطمأنينة حول مستقبلها السياسي.

** تحديد حصّة العائلة المالكة من الثروة. ضمن الوضع الحالي، لا أحد يعلم كم تقتطع من ميزانية الدولة، ولكن يرجح أن تكون في حدود الثلث، اعتماداً على تقديرات صحافية. مادامت مخصصات العائلة المالكة كبيرة وسريّة، إضافة الى اقتطاع حصص نفطية تباع لحساب هذا الأمير أو ذاك، وتملّك الأراضي والبراري وفرض الخوّة على التجار وغير ذلك. هذا يفرض ضغطاً هائلاً على موارد الدولة، وعلى الحياة اليومية للمواطن، ولذلك اقترح الأمير طلال في الستينيات الميلادية ضمن مشروعه الإصلاحي التخفيض التدريجي لمصاريف العائلة المالكة ريثما يتم تأهيل أفرادها للإعتماد على أنفسهم.

لكن المسألة أعمق من ذلك بكثير، إذ لا يمكن ضبط مصاريف العائلة المالكة بدون تقليص عدد المنتفعين منهم (يقدر الآن بأكثر من عشرين ألف شخص) وهذا يستلزم إحياء مشروع قديم يحصر إطلاق صفة (الأمير) في أبناء وأحفاد الملك المؤسس ممن يعرّفون اليوم بـ (صاحب السمو الملكي) ومع هذا فإن الباقي يقدر ببضعة آلاف، وهو رقم كبير لا تستطيع الدولة أن تتحمل بصورة مباشرة صرفاً ضخماً على كل فرد منهم. ولذا، يمكن الإتفاق مع كبار رجال العائلة، أن تتحمّل ميزانية الدولة لفترة محدودة (ربما عبر تطوير مجلس العائلة المالكة الحالي والذي أُسّس لهذا الغرض قبل أكثر من عام) بتقديم نسبة محدّدة من ميزانية الدولة لترتيب وضع العائلة المالكة المالي بحيث تعتمد فيما بعد على نفسها، خاصة وأن أكثرية الأمراء قد رُتبت أوضاعهم ولهم الكثير من الممتلكات والمدخرات والشركات والأراضي، ولهم نشاطاتهم الإقتصادية الضخمة. أما الملك وولي عهده، فتتحمّل الدولة دائماً مصاريفهما ضمن جهاز الدولة، ويمنحان مخصصات مجزية تليق بمقامهما كرمزين للدولة ووحدتها، ليس في حدود المصروف الشخصي بل بشكل أوسع يكفل مساهمتهما ودعمهما وعطاياهما لمن أرادا.

** حصانة العائلة المالكة القضائية مسألة أخرى تعرض كلّما نوقش موضوع الإصلاح. ليس من مصلحة كبار العائلة المالكة أن يتحمّلوا وزر وأخطاء عشرين ألف أمير وأميرة، بينهم من يسرق ومن يقتل ومن يعتدي على الأعراض ويسلب الأموال ويضايق المواطنين في معاشهم، ويفرض نفسه على تجارهم، ومن يعتدي على موظفي الدولة كباراً وصغاراً بالإهانة والضرب والإذلال، ومن يتدخل في شؤون القضاء، ويزرع الفساد عبر الكسب المحرم، ومن ينتهب أموال الناس كأفراد ومؤسسات كالبنوك دون أن يستطيع أحدٌ إيقافهم. إن منح الحصانة لهذا العدد الوافر من الأمراء والأميرات يغري الكثير منهم ـ وفق ادّعاء أن الدولة ملك شخصي لآل سعود ـ استمراء هذه الأفعال المشينة والإصرار عليها وتوسيع نطاقها، وهو ما انعكس على سمعة العائلة ككل، وحطّ من قدرها بين الشعب، فاستـُـبدل الحبّ بالكراهية والبغضاء حتى بين الدوائر الضيّقة التي تتظاهر بالإحترام وتقبيل الأكتاف والأيدي. إن منطق الحصانة، إن كان لا بدّ منه رغم مخالفته للشرع، يجب أن يُحصر في عددٍ قليل من الأمراء، ممن يباشرون وظائف في الدولة، وبهذا ـ لا بدونه ـ يمكن ضبط تصرفات الآخرين، ووصل ما انقطع من ودّ بين الشعب والعائلة المالكة، وتخفيف المشاكل التي يضجّ منها المواطنون بمختلف شرائحهم.

ماهيّة الإصلاحات: يبقى بعد هذا ماهيّة الإصلاحات واتجاهاتها، والتي يبدو أن هناك ما يشبه الإجماع بشأنها، وتشمل:

1 ـ تشكيل مجلس شورى ينتخب أعضاؤه جميعاً رجالاً ونساء، ويعدّل نظام المجلس بحيث يمنح صلاحيات واسعة في مجال المحاسبة والرقابة وإقرار الميزانية والمساهمة الفاعلة في رسم سياسة الدولة داخلياً وخارجياً.

2 ـ تغيير شامل لنظام المناطق وتعزيز الإدارة المحلية بعدما ثبت بأن مركزية الدولة تمثل عائقاً للإصلاح، واعتماد نظام الإنتخابات لشغر مناصب تلك الإدارة.

3 ـ إجراء تغيير حاسم في موضوع القضاء يضمن استقلاله، أو احتكاره من طرف إجتماعي أو مذهبي بعينه.

4 ـ توسيع هامش الحريات الصحافية وقنوات التعبير الأخرى.

5 ـ إفساح المجال لقيام مؤسسات المجتمع المدني، تخفيفاً لأعباء الدولة ومساهمة من الجمهور في إيجاد قوى موازية لمؤسساتها، ومشاركة منه في صناعة مستقبل البلاد.