بعد عقد من التوتّر:

هل تشهد المملكة إنفراجاً حقيقياً؟

  

تستدعي الاجواء السياسية النشطة في المملكة هذه الايام صورة التجاذبات الداخلية المنشّطة بفعل الضخ السياسي المصاحب لظروف أزمة الخليج الثانية عام 1991. هذه الاجواء أعادت الى الواجهة فعاليات الحركة المطلبية بشكليها العفوي الجماهيري والمنظم..فعاليات تلتحم فيها الدعوة الى الاصلاح بالتقييم العام لوضع بات من غير المحتمل السكوت عنه، بمشاعر القلق على بلد بات يفقد القدرة على السير بالمطالب المخلصة والجادة من اجل اعادة بناء العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أسس قويمة ومتوافقة مع متطلبات دولة حديثة مؤسساتية تحتكم للقانون.

عرائض دعاة الاصلاح المرفوعة للملك فهد في الفترة ما بين ديسمبر 1990 وحتى فبراير 1992 لم تكن تتضمن دعوة بازالة النظام او الاطاحة السياسية بالعائلة المالكة، بل مثّل الموقعون عليها موقفاً فريداً في الاعتدال يعكس النظرة الثاقبة لأصحابها، واثقين بأن ما يطلبونه لا يخترق حدود الامكان ولا يصطدم بعقيدة المجتمع او يصادر حقاً مقدّساً من حقوق الناس او يفتئت على سلطة من بيدهم الامر.

ان التحليل العام لمحتويات العرائض السابقة يثير شعوراً بالثقة والفخر بأولئك الذين شاركوا وساهموا وناضلوا من اجل تحقيق المطالب الواردة فيها، وفي ذات الوقت تثير ردود فعل الحكومة سخطاً واستياءً عاماً كونها نبذت المطالب المعتدلة من كل القوى السياسية والاجتماعية التي وقفت خلف هذه المطالب، مسكونة بنظرة الشك في كل دعوة تتضمن مطلباً بالاصلاح وإن كان مقاصدها نبيلة وغاياتها النهائية تصب في صالح الحكومة والعائلة المالكة.

الانظمة الثلاثة (الاساسي، الشورى، المناطق) المعلنة في مارس 1992 لم تكن دون مستوى تطلعات التيار العام في المملكة فحسب وإنما دون خياراتهم المتاحة أيضاً. فالانطباعات الاولية التي خلقها إعلان الأنظمة هو أن المملكة كانت قبل الإعلان دولة مستبدة شمولية ولكن دون قانون فجاء الاعلان كيما يضفي عليها صبغة قانونية ليس إلا. وكأن دعاة الاصلاح كانوا يناضلون كيما تضمن العائلة المالكة حقوقها المهضومة. فقد إحتكر رأس الدولة، أي الملك، كافة مصادر القوة والسلطة واليه يرجع الأمر كله من قبل ومن بعد، فهكذا تخبرنا مواد النظام الاساسي.

فالنظام الاساسي كفل حق الملك ومن يرثه، وكانت تلك قضية مركزية لم يكن حسمها بين اقطاب العائلة وأجنحتها بالأمر اليسير. أما الحقوق المدنية الخاصة بالمواطنين فرغم ما أبرقته من أمل وسط المتضررين من تعسف الأجهزة الأمنية وقمعها وتطفيف القضاء وخذلانه إلا أن تقارير المنظمات الحقوقية الصادرة منذ عام 1993 وحتى 2003 تحدثت بإسهاب عن المحاكمات غير العادلة والاعتقالات العشوائية والمعاملة المخلّة بحقوق الآدميين سواء في السجون أو في الدوائر الحكومية أو في المنافذ الحدودية، تؤكد مرة أخرى أن الحكومة مازالت تتمسك بمنطق ملكية الارض ومن عليها، وأن سياسة الرعية مازال أداتها القمع.

أما نظاما الشورى والمناطق، فرغم الأمل فيهما بتعويض ما خسره المواطنون في النظام الاساسي، فكانا مسلوبي القدرة منزوعي السلطة والصلاحية، ولم يعد يذكر الناس من سيرتهما إلا بما تلفت نشرات الأخبار الإنتباه إليه هذا إن وجد من يشاهد محطات التلفزة الرسمية وسط أغلبية محبطة من مجمل أداء الدولة وأجهزتها.

مجلس الشورى مرَّ بدورات ثلاث في  الاعوام 1992 و1996 و0200 وارتفع عدد أعضائه من 60 الى 90 واخيراً الى 120 عضواً ولكن هذه الزيادة الكمية لم تعكس مطلقاً زيادة ملحوظة في دور المجلس في عملية صناعة القرار السياسي، فالزيادة لم تسفر عن نقل بعض صلاحيات السلطة التنفيذية الى مجلس الشورى وصولاً الى تحويل الاخيرة الى سلطة تشريعية مكتملة الصلاحية والقوامية. هذا لم يتم، وبقي الملك وحده الذي يقرر الموضوعات التي يسمح بتحويلها الى مجلس الشورى بغرض إبداء المشورة فحسب. وكانت النتيجة أن المجلس بات شكلاً ومضموناً من ملحقات السلطة التنفيذية، ومبنى اضافياً من مبانيها. فليس للمجلس ولا لأعضائه صلة بهموم المواطنين ومشاكلهم، بدليل أن ليس هناك ما يتذكرونه حول المجلس من قرارات او حتى قضايا أبدى فيها المجلس مشورته وكانت لها علاقة بالمواطنين.

مجلس المناطق لم يكن أحسن حظاً، فانخفاض دوره الى مستوى ينحدر الى أسفل الهامش يجعل الاهتمام العام به قريب العدم، فالمجالس المناطقية لم تكن سوى أجهزة تعكس ترهل الدولة وبيروقراطيتها المتضخمة بأداء فقير.

كان التجاذب بين تيار الاصلاح والحكومة بعد إعلان الانظمة الثلاثة محكوماً الى الصياغات القانونية والنظرية لمواد هذه الانظمة وتقويم كل طرف لكفاءة الانظمة في تلبية أهداف المرحلة التي عاشتها البلاد حينذاك، ولكن الآن وبعد أكثر من عقد على اعلان الانظمة لا بد أن ثمة قناعة راسخة قد توصل اليها أهل الحكم أو بعضهم على الاقل دع عنك تيار الاصلاح نفسه، الراسخ الإيمان في متبنياته، بأن الأنظمة لم تكن بمستوى المرحلة تلك وان الإصرار على العمل بها ليس سوى إعلاناً صريحاً على مقاومة حركة التاريخ والحقيقة والمصلحة العامة.

اليوم ليس هناك من دعاة الاصلاح من يرى في تلك الأنظمة ما يستحق إيصاله بالمستقبل، أي إعتماد انظمة مارس 1992 كقاعدة إنطلاق في عمليات إصلاحية قادمة، لأنها ـ الأنظمة ـ لم تكن أساساً صالحاً للانطلاق يوم كانت دعوة أهل الاصلاح مستجيبة للحظة التاريخية التي انبثقت منها العرائض، وإن ما يصح الآن ليس سوى الإنضمام لتيار الاصلاح المنبعث في كافة الارجاء إقليمياً ودولياً.

إن القول بخصوصية هذا البلد كذريعة لإبطاء حركة الإصلاحات وتحجيمها أو اعتماد مبدأ التدرّج في التحول السياسي، قد فقد ـ هذا القول جزءا كبيراً من صدقيته، فقد ثبت بأنه لم يرد منه سوى تعزيز أركان السلطة وإطالة عمرها، ولم يكن يرع فيه قدرة أهل هذا البلد على إستيعاب المتغيرات المحيطة بهم والحاجات الضرورية التي تتطلبها إصلاحات بمستوى تلك الحاجات.

فالتدرّج كان الغرض منه ومازال اطمئنان أهل الحكم على استقرار سلطانهم، وهذا الغرض لا يجوز مطلقاً أن يفضي الى تفويت مصالح التيار العام من أجل مصلحة خاصة أو كسب رضى فئة قليلة مهما بلغ نفوذها وقربها من السلطان.

تيار الاصلاح اليوم هو أكبر منه قبل عقد من الزمن، وثقته اليوم هي أقوى من الامس، كما أن مشاكل الدولة اليوم هي أكبر منها قبل عقد، وأن موقعها اليوم أضعف من الامس، ولابد من عقلاء هذه الدولة حساب المتغيرات بدقة، لأن القاعدة التي غفل عنها أهل الحكم قبل عقود بأن الحقوق يعضد بعضها بعضاً هي اليوم أكثر من ضرورية للخروج من مأزق محتمل، وبخاصة حين تكون وزارة الداخلية والاجهزة الامنية التابعة لها طرفاً يعمل بالنيابة عن أهل الحكم في التعامل مع مطالب دعاة الاصلاح.

ندرك أن لعبة الصراع على السلطة لم تحسم بعد، ويكفي مؤشراً على ذلك بقاء الملك بكل العلل المقعدة به عن ممارسة وظيفته كولي أمر عن بلد بأكمله، وندرك تماماً أن عدم حسم الحصص داخل العائلة المالكة يشكل كابحاً أمام تبلوّر إجماع عام داخل العائلة المالكة بخصوص مطالب الاصلاح. ولكن المسألة الآن ليست محصورة في 20 ألف شخص بل هي ممتدة الى 20 مليون إنسان يعيشون في هذا البلد، مع الفات الانتباه الى أن عملية الاصلاح ليست خياراً فحسب وإنما ضرورة شديدة الالحاح، فمشاكل الدولة لا يمكن تأجيل البحث في حلولها.

عريضة دعاة الاصلاح الأخيرة التي قدمت لولي العهد ، اشتملت على مطالب تترجم بصدق وعي اللحظة التاريخية التي أعلنت فيها وأنتجتها، وهي مطالب تمثل إجماع قوى الاصلاح، وأن الاختلاف حول بعض نقاط العريضة لا يضعف من تماسك هذه القوى والتقائها على المبادىء العامة في عملية الاصلاح. إن الموضوعات التي شملتها العريضة ضمن قائمة المطالب المدرجة فيها هي بلا شك موارد ابتلاء السكان على اختلاف توجهاتهم السياسية والايديولوجية، ولذلك أمكن القول بحق انها تمثل لسان حال الاغلبية العظمى ان لم يكن مجمل افراد هذا البلد.

أخيراً نتقدّم بدعوة مخلصة ومفتوحة لأبناء هذا البلد كيما يعبّروا عن مساندتهم وتعضيدهم لمجهود دعاة الاصلاح. إن الحضور الجماهيري في الساحة السياسية بات اليوم مطلوباً اكثر من أي وقت مضى لحساسية الوضع ولحراجة الظروف السياسية التي تمر بها المنطقة بصورة عامة مما يتطلب فعلاً حقيقياً في دفع عجلة الاصلاح نحو الامام، فما خسرته البلاد بعد مرور عقد على اعلان الانظمة الثلاثة كفيل بأن يلزمنا بمسئولية المشاركة الجماعية في صناعة قرار المستقبل.