ملاحظات غير حذرة حول

أزمة الهوية الوطنية في المملكة العربية السعودية

 

حمزة الحسن

 ما هي هذه الهوية التي يتحدث عنها العنوان.. ماذا تعني، ما توصيفها، وما هي أهميتها وما هي مكوّناتها؟ هل هذه الهوية (الوطنية) كائن موجود؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فهل هذا الكائن قوي؟ هل هو قابل للصناعة والخلق إن لم يكن موجوداً، ما هي الأمور التي تضعفه، أو تقوّيه؟ هل هذه الهوية متناقضة مع غيرها من الهويات الدينية/ المذهبية، والقبلية، والمناطقية؟ هل هي في أزمة حقاً، وما هي ملامح هذه الأزمة إن كان الأمر كذلك؟

الحديث عن الهويّة الوطنيّة في المملكة ذو شجون، وهي ـ من وجهة نظري ـ ليس أهمّ قضية تواجه المملكة منذ نشأتها فحسب، بل تكاد تكون جذراً عريضاً لطيف واسع من المشكلات التي تواجهها المملكة في شتى النواحي الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والنفسية. وهذا البحث المختصر يستهدف تقديم تصوّر عام عنها، والتعريف بحدودها بالشكل الذي يوفّر مسحاً عاماً للمواضيع التي تتعلق بها، وبقدر الإمكان الإجابة السريعة على الأسئلة المذكورة أعلاه.

***

 

المقصود بالهوية الوطنيّة في معناها العام، ذلك الشعور الجمعي المشترك والشامل لمواطنين في دولة ما، الذي يقرّبهم من بعضهم البعض، ويولّد لديهم حسّاً بالإنتماء للأرض التي يعيشون عليها، ويعزّز الحاجة المشتركة للتعايش معاً الى حدّ ربطهم بمصير واحد. إنه شعور يولّد في أدنى درجاته إحساساً بالإختلاف عن الشعوب الأخرى، وفي أعلاه، رابطة قويّة أقوى من عوامل التمزّق والإختلاف مهما تعدّدت أصنافه، سواء كانت عرقية أو دينية أو قبلية أو غيرها.

إن ضمور أو ضعف أو غياب هذا الشعور وتلك الروابط المتفرعة عنه، وفي أي بلد كان، يعكس حقيقة عدم القدرة على التعايش بين الجماعات المختلفة في ذلك البلد، وفي بعض الأحيان يؤدي الى تقاتلها واشتعال الحروب الأهلية. كما أن غياب القيم والمشاعر الجمعية الوطنيّة تقود الدولة نفسها الى الإنحلال والتمزّق، فتكون أشبه ما يكون (مخلوقاً) غير مرغوب فيه، أو غير جدير بالبقاء ولا بالدفاع عنه أمام خطر الإنقسام، أو خطر الإنتقاص أمام العدو الخارجي. إن كلّ الدول التي تعيش حروباً أهليّة، أو تتعرّض لإنقسامات مجتمعية حادّة على أسس دينية أو عرقية أو لغوية، فقدت حصانتها الداخلية بسبب ضعف الإنتماء، أو بسبب الفشل في خلقه وتعزيزه، سواء لعامة السكان أو لمجموعات محدّدة فيه لم تقتنع بالمشروع الوطني إن وجد، أو لم تُعامل على أسس ما يترتب عليه ذلك الإنتماء الواحد والهوية الواحدة، ولم تستثمر في مجال (الدمج الوطني) للمختلف عنصراً أو إقليماً أو ديناً أو مذهباً، ولا في مجال ترقية (الثقافة الوطنية) التي توفّر الحدود الدنيا لنمو المصالح والأحاسيس المشتركة. وبعبارة أخرى، فإن تقوية الإنتماء الوطني ضرورة حتمية لبقاء كيان الدولة، ودعامة لإستقرارها الأمني والسياسي.

إن الهويّة الوطنيّة لا تنشأ من فراغ، ولا هي بالقضيّة الهيّنة التي يمكن التفريط فيها، أو إلقاء مسؤولية بنائها وتعزيزه على جهة مجهولة، فهي تدخل في صميم عمل أي حكومة (وطنية) وفي مقدمة أجندتها.. تلحظه في سياساتها التعليمية والإقتصادية وخدماتها الإجتماعية وفي إعلامها وجهاز التوظيف لديها، وفي كل قراراتها. وإذا ما فشلت حكومة ما في تعزيز الإنتماء الوطني، وظهرت الإنشقاقات السياسية والدينية على السطح، وزادت وتائر العنف، وارتفعت أصوات المطالبين بالإنفصال، لا يُلقى باللائمة السياسية حينها على (العنصر الخارجي) ولا على (الإنفصاليين) بقدر ما يُلقى على الحكومة القائمة التي فشلت في تهيئة الأرضية اللازمة لبروزها.

فيما يتعلّق بالمملكة العربية السعودية، فشأنها شأن عدد غير قليل من دول العالم الثالث، معرضة لمخاطر الإنقسام الداخلي نتيجة المخزون غير العادي من العصبيات، ونتيجة غياب الهوية الوطنية إمّا بسبب عدم الإعتناء بها، أو لأنه نُظر الى وجودها كخطر على الطبقة الحاكمة، أو نتيجة السياسات المنتهجة منذ قيام الدولة وحتى الآن والتي ليس فقط لا تخدم عملية الدمج والتقريب، بل تجعل من أي مشروع وطني فيما لو عرض غير قابل للنمو بالنظر الى البيئة العامة المريضة القادرة على قتل المشروع الوطني، وليس فقط إضعاف التفاعل معه.

من بين المشاكل الأوليّة التي تعترض البحث في هذه المسألة الحساسّة، غياب الإدراك الواقعي لحجم المشكلة لدى المقامات العليا الى حدّ تجاهلها بشكل شبه مطلق، وإذا ما تمّ الإقتراب منها فعلى خلفية أمنيّة بحتة، ولفترة مؤقتة، فهي ليست مشروعاً يحظى بالإهتمام والإثارة إلاّ في حالة تفجّره ومن ثمّ معالجته بصورة سطحية. هناك أيضاً مشكلة حقيقية تكمن في عدم اعتراف شريحة من النخبة (بتعريفها الواسع) بأن المملكة بلد غير متجانس، رغم أن الأمر ليس معيباً، فالدول المتجانسة في العالم، أي تلك التي لا توجد فيها فوارق عرقية أو دينية أو ثقافية أو ما أشبه لا يصل عددها الى عشر دول. ويبدو أن الشريحة المشار إليها لا تعترف بأن المملكة بلدٌ متعدد في ثقافته وعاداته وتقاليده ومذاهبه ومناطقه ومناخه وتاريخه بل وبشكل ضئيل في أعراقه.

وعدم الإعتراف بهذه الحقيقة الساطعة ـ لا جهلاً بها أو بوجودها وإن قيل ذلك ـ يجعل من مجرد طرح المشكلة للنقاش أشبه ما يكون بـ (مؤامرة) تستهدف إختلاق المشاكل أو إثارة ما هو مسكوت عنه وتضخيمه. والحال هو أن المملكة تتسم بصفات الإمبراطورية في تأسيسها وفي سياساتها القائمة، وهي تتكون من (أقليّات) مناطقية مدعّمة بخصائص ثقافية ودينية، لا يصل حجم أكبرها وفي أحسن الفروض الى 35% من حجم السكان الكلي، وقد كانت هذه المناطق في زمن ما غير بعيد دولاً وإمارات مستقلّة.

من المهم قبل الحديث عن الهوية الوطنية، أن نتحدث بلمحة قصيرة عن تشكيل الدولة نفسها، كي نفهم الأسباب التي جعلتها تواجه مأزق الهوية. في نظري أن هناك ثلاث مواصفات للدولة السعودية جعلت أزمة الهوية الوطنية لصيقة بها منذ نشأتها وهي:

1ـ إنها دولة اتخذت صفة (الإمبراطورية) من حيث أنها قامت على أساس الحرب والتوسع باحتلال مناطق وإمارات مستقلة مختلفة في خصائصها الثقافية والسياسية والتاريخية والجغرافية والإقتصادية، فأضيفت الى المركز (نجد) وأُلحقت به. فالوحدة السياسية لم تنشأ من رغبة (ربما كان مستحيلاً أن تنشأ من رغبة) واتخذت طابع الإحتلال أكثر من شكل التوحد. ربما من الصحيح القول ظاهرياً أن الإمبراطورية تحوّلت الى (دولة قومية Nation-State) ولكن هذا مجرّد توصيف غير دقيق، فمن الناحية الفعلية، لاتزال صفة الإمبراطورية لصيقة بها، والإمبراطوريات تفشل عادة في بناء الأمّة Nation Building، بعد بناء الدولة State Building.

2 ـ وثانياً، وجود سلالة ملكية حاكمة على هرم الدولة ـ الإمبراطورية (Dynastic Empire) وهذا شأن معظم إن لم نقل كل الإمبراطوريات التي قامت في التاريخ قديمه وحديثه (مثال ذلك اليابان وبريطانيا والعثمانيين والصين وروسيا القيصرية والإمبراطورية النمساوية الهنغارية والرومانية، وإمبراطوريات أفريقيا وغيرها). وفي كثير من الأحيان، كانت تلك الإمبراطوريات رهينة في بقائها وتوحّدها ببقاء العوائل المالكة فيها. ومشكلة المملكة أنها دون غيرها من الإمبراطوريات أخذت إسم صانعيها، بشكل لم نجد له مثيلاً إلا لدى العثمانيين، وقد ارتبط هذا الأمر بموضوع الولاء للدولة أم للعائلة، وأيهما مقدّم على الآخر. هل الولاء لله، ثم المليك ثم الوطن؟ أم يكون الوطن مقدّم على العائلة المالكة؟ هل يكفي الإنتماء الى الدولة، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي القائم فيها، في الحفاظ عليها موحّدة؟

3 ـ إن الدولة السعودية ـ الإمبراطورية، قامت على أساس عصبيّة دينيّة ومذهبيّة ومناطقية. وهذه العصبيّة لم يجر التخلّي عنها لصالح عصبيّة أكبر (وطنيّة) بعد أن قامت الدولة، بل جرى ترسيخها رسمياً. الأمر الذي خلق من الناحية العملية علاقات هيمنة بين الجماعات السكانية التي تتشكّل منها المملكة، كما خلق مراتب في مسألة (المواطنة) وأيضاً جعل بناء هويّة وطنيّة أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد. حتى أمراء العائلة المالكة، لم يقتفوا إثر نظرائهم العثمانيين مثلاً، بمعنى أنهم لم يخرجوا من شرنقة الإنتماءات التي جاؤوا منها، وإحساسهم بالحاجة الى العصبية الدينية المناطقية التي جاؤوا على أكتافها للسلطة كمنطلق أيديولوجي عمّق أزمة الهوية، وأضعف الإهتمام بها. هذا بدوره أدّى الى جعل الدولة القائمة (وليس الحكومة فقط) مهتزة الشرعية (Illegitimate State) وصنع حاجزاً نفسياً وعملياً لتلاقي المناطق والمجاميع السكانية المختلفة، لغياب الشعور بالمساواة عند السيد والمسود، ولتعمّق الإحساس بأن منطقة المركز تمارس ما اصطلح عليه (الإستعمار الداخلي Internal Colonialism) أي قيام منطقة بالتوسع فتحكم المناطق الأخرى وتفرض ثقافتها ورجالها وسياستها على كل مناحي الدولة، من منطلق الغلَبَة (أخذناها بالسيف) أو الرسالة الدينية (مسلمين وكفار، أي إعادة أسلمة المواطنين)([1]) أو الحق التاريخي (ملك الآباء والأجداد).. إن عصبية الأيديولوجيا (الوهابية) التي قامت عليها الدولة فوحّدتها فأضحت "مظهرها المتميز"([2]) تحوّلت اليوم الى عبء على كاهلها، وبدون إزاحة هذا العبء، فإن الأيديولوجيا نفسها تلعب دور المفتّت للدولة من جديد، وهي نفسها التي تنقض شرعية النظام بعد أن أكّدته.

هناك (دولة State) إسمها المملكة العربية السعودية، ولكن لا يشكّل شعبها ما يطلق عليه (أمّة Nation) وهي لهذا تسمّى تجاوزاً (دولة قوميّة) شأن دول عديدة في الشرق الأوسط والعالم الثالث، ذلك أن تأسيس الدولة لم يساهم في تحويل الولاءات ما قبل الدولة وخصوصاً الولاءات القبلية وكذلك الهويات المختلفة الى هوية وطنية([3]). والأمّة كمفهوم (وطني) (وليس كمفهوم ديني) لم يجرِ استخدامه في المملكة إلاّ في حالات نادرة، وربما كان الأمر كذلك في أكثر البلدان العربية أيضاً، التي تعتبر نفسها جزءً من أمّة أكبر (عربية أو إسلامية). ولكن الأمّة بالمفهوم القطري كما بالمفهوم الديني (جميع المواطنين عرب أو مسلمون) لا ينطبق على المملكة، فهناك من لا يعترف بإسلام الآخر، والمملكة في الجانب الآخر ليست مجتمعاً متجانساً، ومختلف التعريفات لا تنطبق عليه. فالأمّة عند ماكس ويبر مثلاً، هي المجتمع "المؤسس تاريخياً، والمجتمع المستقر في أفراده، والذي أُسّس على لغة وأرض وحياة إقتصادية واحدة، إضافة الى التشكل النفسي الذي يتمظهر في ثقافة مشتركة"([4]). والأمة عند آخر هي "مجتمع الشعور الذي يتمظهر في دولة خاصة به"([5]). وعند آخرين متسامحين، الأمة: مجموعة من الناس تعيش على أرض واحدة، بروابط مشتركة في الثقافة (كديانة مثلاً) ومشاعر متقاربة؛ فهم لا يشترطون العنصر المشترك ولا لغة مشتركة ولا التأسيس التاريخي لكيان الدولة. المهم أن يتوفّر قدرٌ معقول من روح التضامن بين السكان، وقدرٌ معقول من الشعور بالتقارب المشترك، وأهمية المصالح المشتركة. والأمّة عند علماء السياسة المتأخرين "ذلك المجتمع الذي يحكم نفسه اليوم، أو الذي حكم نفسه من قبل، أو الذي  تكون مدعياته في حكم ذاته معقولة في المستقبل غير البعيد"([6]). وأحسب أن كلّ مناطق المملكة ينطبق عليها واحد من الأوصاف الثلاثة، فهي أشبه ما تكون بأمم أو مجتمعات متعددة، يضغط إرثها الإستقلالي الكبير باتجاه تمييز نفسها وعدم الإنصهار في بوتقة الدولة الجديدة.

من الناحية التاريخية، فإن المملكة بلد مؤسس حديثاً (سبتمبر 1932) تكون من أربع وحدات سياسيّة مستقلة، في الغرب الحجاز (المنطقة الغربية) وفي الجنوب عسير ونجران وجيزان(المنطقة الجنوبية) وفي الشرق الأحساء والقطيف (المنطقة الشرقية) وفي المركز ـ الوسط نجد (المنطقة الوسطى). أدّت حداثة التأسيس الى ضعف في "الإنسجام الوطني على المستويين السياسي والإجتماعي"([7]) والى صعوبة التغلّب على الفوارق المناطقية خاصة بين الحجاز ونجد بشكل "أعاقت تطور الهوية الوطنية"([8]). وهناك فوارق جوهرية لاحظها الباحثون ديمغرافياً وسياسياً ودينياً وثقافياً وتقاليد؛ وقد كانت عزلة كل منطقة عن الأخرى وتراثها الإستقلالي مدعومة بالتباعد الجغرافي سبباً مباشراً في ترسّخ الهويات المناطقية([9]). فكل منطقة لها أهمية من نوع ما، فالحجاز بأماكنه المقدسة ونخبه التجارية، ونجد مسيطرة سياسياً وعسكرياً، والأحساء تحتضن موارد الدولة حيث حقول النفط، في حين يحتل الجنوب أهمية في الجوانب الزراعية([10]). ومقابل هذا التنوّع الفريد، هناك انقسامات حادّة، على صعيد المذاهب الدينية، والأصول الأثنية، والعادات والقيم الإجتماعية. عامل اللغة يوحّد بدرجة ما، وعامل الدين يفترض أن يكون موحّداً فالجميع مسلمون، ولكن لأن الدولة في الأساس قامت ـ كما أشرنا ـ على عصبية دينية/ مذهبية، فاعتبرت الآخر (كافراً) وأحلّت دمه واحتلال أرضه من أجل إعادة أسلمته، نشأ هذا الإنشقاق، واستمرّ حتى بعد قيام الوحدة السياسية، وكلّ ما تغيّر حتى الآن، هو التخفيف من تكفير الحجازيين مثلاً الى اعتبار قسم منهم (او كلهم) مشركون، وليس لهم ولا لغيرهم أيّة مشاركة في المؤسسة الدينية فهي نجدية سلفية خالصة. أمّا الشيعة فهم قبل قيام الدولة وبعدها غير مسلمين، ويمكن إما اعتبارهم مذهباً مختلفاً أو (ديناً) آخر حسب الموقف الرسمي الديني. ولذا فإن الدين ـ وفق الطرح هذا ـ يلعب دوراً فاعلاً في بلورة الشخصية المناطقية لكل السكان، وهو بهذا الحال عنصر تمزيق حادّ في المجتمع السعودي.

ويضاف الى هذه الإنقسامات على قاعدة دينية، الإنقسامات والإنتماءات القبليّة، وهي شديدة التعقيد، عميقة الجذور، وهي غالبة لدى البعض على الهوية الوطنية والمناطقية والمذهبية مجتمعة. ولا يبدو أن قيام الدولة السعودية قد ساهم في إضعاف هذه الهويات المختلفة، وإن بدا أنه قد قمعها أو حدّ من تمظهراتها العنيفة، بل يمكن القول أن الذاكرة التاريخية للسكان تتعامل مع الدولة كعنصر إضافي في استمرار الصراع والعداوة القديمة أكثر من كونها موحّداً من الناحية الفعلية. ولذا فإن قيام هويّة وطنيّة في مجتمع كهذا بالغ الصعوبة، ويمكن المجازفة بالقول أنه لولا عنصر القوة الضاغط فلربما اختار السكان عدم التعايش مع بعضهم البعض. فهل تبقى الوحدة السياسية رهينة القوة التي صنعتها والى متى؟ الى أيّ حدّ يمكن معه القول أن الهوية الوطنية ولنسمها (السعودية Saudism) أمرٌ مرغوب فيه لدى صانعي الدولة الحديثة ـ العائلة المالكة أولاً، ولدى المجموعات السكانية التي يقيمون على أرضها ثانياً؟ وما هو التنازل المطلوب منهم جميعاً كشرط مسبق لقيامها، أو لتثبيتها إن كانت قائمة بالفعل؟.

 

مكوّنات الهويّة الوطنية

 

ما هي تلك العناصر والروابط التي تشدّ مجموعة من الناس الى بعضها البعض، وتخلق حسّاً جمعياً مشتركاً: هل هي رابطة الدم، العنصر، اللغة، الدين، المذهب، الثقافة والتقاليد والعادات المشتركة؟ هل هي المصالح الإقتصادية، هل هي رابطة الأرض التي يعيشون عليها، الحكومة التي تتولى شؤون أمرهم، الذاكرة التاريخية وما تتضمنه من أمجاد وعظمة ومآسٍ وأتراح؟

هي كل هذه العناصر، ولكنّ تشكيلة نِـسَـبِـها تختلف من مجتمع لآخر، ودولة لأخرى.

وهي ذات العناصر التي تؤدّي الى عدم الألفة وتمزيق المجتمعات والدول، والى خلق الحروب الأهلية، والى صناعة محفـّـزات الإنفصال والتقسيم في حال أُسيء استخدامها، وفشلت كيمياء نسبها. ما لذي يدعو الأكراد للحرب والمطالبة بالإنفصال عن العرب والترك والفرس جميعاً؟ والتاميل عن السنهاليين؟ والقبارصة الأتراك عن اليونانيين؟ وسكان كيوبك عن الكنديين؟ والكروات والألبان والبوسنيين وغيرهم عن يوغسلافيا؟ ما الذي أشعل حروب الإنفصال في أسبانيا (الباسك) وشمال إيرلندا وكورسيكا وآسام وكشمير الهند وعدد من مناطق أندونيسيا (جزر الملوك، وآتشي، وتيمور)؟ ما لذي فكّك إمبراطورية آل عثمان، والإمبراطورية السوفياتية، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغسلافيا؟ وما لذي أبقى دولاً أخرى تتمتع بذات الموزاييك الإجتماعي موحّدة رغم كل مبررات التقسيم (بلجيكا والنمسا وغيرهما)؟ لماذا يخشى على العراق والسودان من التقسيم ولا يخشى على مصر مثلاً؟ لماذا يتوحّد اليمنان ويتوحّد الألمان ولا تتوحّد الكوريّتان حتى الآن؟ وقائمة الأسئلة طويلة لا تنتهي، ولكن الإجابة عليها مختصرة أن عوامل التقسيم والنزاع بين الجماعات المختلفة والتي لا يخلو منها مجتمع سياسي قد تكون في بعض البلدان أقوى من عوامل التوحيد فتنزلق في حروب إنفصالية وصراعات داخلية، وإذا ما أُتيح المناخ الإقليمي والدولي الملائم لها ظهرت على السطح.

المملكة حالها لا يختلف عن غيرها: بالإمكان إستخدام الدين/ المذهب للتوحيد أو للإنفصال، وبالإمكان أن يساهم النظام السياسي الواحد في فتنة التمزيق أو العكس؟ والمصالح الإقتصادية خاصة الثروة النفطية، قد تلعب دور اللاحم الإجتماعي والسياسي وقد تؤدي الى المنافسة عليها والإستئثار بها فتشعل فتيل الإنقسام. وحدود الدولة ذات المليوني كيلو متر مربع، قد لا تعني الشيء الكثير بقدر ما تعنيه خارطة المنطقة والإقليم.. وهكذا.

من طبيعة الهوية الوطنيّة أنها هويّة (جامعة) أي أننا نتحدث عن هويّة (مشتركة) أو بتعبير آخر فإننا حين نتحدث عن صناعة هويّة وطنية فإننا نتحدث عن (القواسم) الثقافية والدينية والتاريخية والمصلحية المشتركة التي يتفق عليها ويقبل بها غالبية المواطنين (السعوديين). هذا المشترك هو ما نبحث عنه من أجل ترسيخه، أمّا المختلف عليه، فهو الهويّة الخاصة بالجماعة المذهبية أو المناطقية أو القبلية (التعددية في إطار الوحدة). وإذا ما تمّ فرض عناصر الهويّة الجهويّة الخاصة لتحتل مقعد الهويّة الجامعة فنحن لا نتحدث حينئذٍ عن هويّة وطنيّة؛ وهذا الفرض قد ينجح في بعض الدول وقد يفشل، وفي كلا الحالين فإن كلفته الإنسانية عالية، وهذا موضوع شائك نؤجل الخوض فيه.

والسؤال: ما هي مكوّنات الهويّة السعوديّة؟ بعض الأكاديميين حاول الإجابة عليها مقترحاً أمرين: الإسلام (حسب التفسير الوهّابي) والولاء للعائلة المالكة([11]). مما لا شكّ فيه أن الحدود ـ الأرض صنعت إحساساً عاماً بالإنتماء الى رقعة من الأرض إسمها السعودية، وأدخلت في المخيال الشعبي العام أن هذه الأرض تختلف عمّا جاورها من أراض، من حيث التسمية وطبيعة الحكم فيها. سأحاول هنا مناقشة (عمودي الهوية) السعودية هذه من الناحيتين النظرية والتطبيقية، فحولهما تدور مسألة قضية الهوية الوطنية والإنتماء الوطني بشكل عام، وأُمهّد لذلك بالسؤال التالي: ما هي علاقة الهويّة الوطنية بالهويّة الدينية؟

هناك ثلاثة أنماط من العلاقة: إمّا أن تكون الهويتان الدينيّة والوطنية متناقضتين متصادمتين فيستدعي الأمر إزاحة أحدهما لحساب الآخر. وإمّا أن تكون علاقة إخضاع، فتكون واحدة منهما أعلى من الأخرى، وإما أن تكون العلاقة فيما بينهما علاقة تعايش وتعاضد بحيث لا تنفكان عن بعضهما البعض. ويعود السؤال بشكل مختلف: هل الهويّتان تختلفان في تطبيقاتهما ومكوّناتهما عن بعضهما البعض؟ نعم، قد تختلفان في أربع مسائل جوهرية:

أوّلها: الإختلاف بين الروابط الطبيعية والروابط القانونية. فالهويّة الوطنية تؤسس لعلاقة (قانونية) بين الدولة والأفراد بغض النظر عن أثنياتهم، ودياناتهم، وثقافاتهم. في حين أن الهويّة الدينية تفرض نفسها على أسس روابط فطرية طبيعية أضيق تنشأ مع ولادة الإنسان بحيث لا اختيار له فيها، وهي بهذا محصورة بين أتباعها ولا تشمل كل المواطنين. كل مذهب ودين يربط بين أتباعه برابطة ما، وفي حال كان كلّ السكّان من أتباع دين واحد، فإنّه لا غنى عن الرابطة القانونية، التي قد يوفّرها الدين أيضاً، أي تؤسس على قاعدة دينية؛ والإسلام ـ وليس أي دين ـ قادر على السمو فوق العصبيات القبلية والمناطقية والعرقية. بيد أن هناك مشكلة في موضوع الرابطة الدينية، فهي تحلّ المؤسسة الدينية محلّ الدولة في العلاقة مع الأفراد. وبالرغم من أن الرابطة الدينية أقوى من غيرها في كثير من البلدان، إلاّ أنه من الصعب تخيّل كيف يمكن للدين توفير الرابطة القانونية في البلاد ذات التعدد الديني أو حتى المذهبي الحاد.

ثانيها: أن الدين الإسلامي هو دين عالمي، وهو بهذا يستحيل ضبطه ضمن حدود الدولة القطرية، كما هو واضح رغم المحاولات الفاشلة للنخب العربية الحاكمة لتدجينه. إذا كان الأمر كذلك، فالإسلام ليس عنصراً مشتركاً فقط بين السعوديين وحدهم بحيث يتميّزون به عمّن سواهم، حتى المذاهب، وأولها السلفي/ الوهابي نفسه، فرغم أنه أكثر مذهب معروف من جهة الإرتباط بالخصوصية المناطقية (المقصود مذهب نجدي المنشأ والظروف/ والدعوة نجدية كما تسمّى/ وقيادته نجديّة على الدوام وأتباعه في أكثرهم من نجد) إلاّ أن له أتباعاً خارج الحدود، فهل يتحوّل هؤلاء الى مواطنين سعوديين، أو هل يكونوا أقرب الى الحكومة السعودية، والى المؤسسة الرسميّة فيها منهم الى السعوديين الحجازيين والجنوبيين والأحسائيين والقطيفيين المختلفين معهم في المذهب؟

إن أولى خطوات بناء الهويّة الوطنيّة لأي جماعة كانت: (التمييز) بينها وبين ما عداها. ولذا فهي تعمل ضمن الحدود المرسومة للدولة، ومن لا يعترف بالدولة القطرية، ويبحث عن وحدة عربية أو إسلامية، فإن حديث الهويّة الوطنيّة لا يعنيه بشيء، اللهم إلاّ في حالة اعتبرها خطوة أولى نحو هدفه الكبير، رغم عدم خلو الأمر من تناقض ما. وعلى كل حال، فإن الهوية الوطنية تعمل داخل الحدود وثابتة مكانياً، أما الهوية الدينية أو المذهبية فتعتمد الأفكار والعقائد ولا تعمل بالضرورة داخلها إن لم تكن متناقضة معها في الصميم، لأن من طبيعتها الإنتشار والتوسّع بقدر ما توسّعت الدعوة وتكاثر الأتباع.

ثالثها: من حيث المحتوى الثقافي لكلتيهما، فإن الهويّة الوطنية تولي أهميّة أكبر للثقافة الوطنية السياسية، أما الأخرى فتركّز على المحتوى الديني الذي قد لا يتناقض بالضرورة مع الهوية الوطنية، بل قد يدعمها ويؤازرها. الثقافة الوطنية يمكن أن نصفها بالإنتقائية والإبتداع بغرض تحصيل الإجماع الداخلي والتمثيل العام للشرائح جميعاً. في حين أن الدينية، خاصة في الوضع السعودي حيث التطرّف المذهبي والمناطقي والقبلي من مختلف الفئات، فهي في أفضل الظروف أقل حرصاً على الإنتقائية في الأفكار والمعتقدات، إن لم تكن حريصة على إثبات ما هو مختلف عليه تعزيزاً للهوية الخاصة، وهي بهذا أقلّ مرونة وجمعاً لما هو مشترك. من المؤسف القول أن الإسلام الذي جاء موحّداً متسامياً على الأعراق والقوميات واللغات والفواصل الحدودية والجغرافية وغيرها، جرّد بسبب الفهم المتخلّف لأتباعه من أهم عناصر حيويته ليظهر بمظهر العاجز عن إيجاد الحلول لمشاكل السياسة الوطنيّة.. لدرجة أن المناسبات الوطنية رغم ندرتها صارت من المحرمات الدينية (كالإحتفال بالعيد/ اليوم الوطني)، وأضحى النشيد الوطني مجرد مسخرة يتلهّى بها التلاميذ في طوابير الصباح، والعملة الوطنية يتلاعب بصورها لأنها هي الأخرى محرّمة، أو لا تمثّل قيمة رمزيّة يعتدّ بها، وأصبحت الفواصل الجغرافية بين المناطق حدوداً دوليّة بسبب المراكز الأمنيّة ومهووسو التفتيش عند مداخلها؛ واللباس الوطني، وجد من يطالب بعض المواطنين عدم السماح لهم بلبسه حتى يتمّ التعرّف عليهم كأتباع دين مختلف، في حين توجد بالفعل مجاميع غير قليلة (خاصة في الحجاز) هي في الأساس زاهدة في هذا اللباس الوطني، وتعتبره لباساً نجدياً، أو هو على الأقل غير عملي. ولولا الشهادتين على العلم كرمز وطني لتعرّض هو الآخر للنقض بأكثر من القول أن السيف لحصد الرؤوس والنخلة توفـّـر عصي الجلد.

رابعها: هناك اختلاف ـ وليس تناقضاً ـ في الوظائف التي تؤديها الهويتان الوطنية والدينية يمكن حصرهما في أربع نقاط: 1) في توفيرهما الشرعية للدولة والحكومة، 2) وفي قدرتهما على حشد الجمهور، 3) وفي قدرتهما على تسهيل العلاقة بين الجماعات والأفراد الذين يتشكّل منهم المجتمع، 4) وأخيراً في مدى طاقة واستجابة الهويتين كأداتين للدمج الإجتماعي.

 

الهويتان الدينية والوطنية وتوفير أسس الشرعية

 

ابتداءً يجب التفريق بين الدولة (الشرعية) والحكومة (الشرعية). الأخيرة تشير الى الحق في الحكم: من وكيف يحكم. أما شرعية الدولة فتشير الى وجود الدولة من أصله، هل هو كيان شرعي مقبول فيبقى، أم غير شرعي فتنتهي الدولة. ولأن شرعية الدولة تهتم بالسيادة على الأرض وعلى القاطنين فوقها فهي أكثر أهميّة ـ بالمقارنة ـ وأكثر خطورة. فنقض شرعية الحكومة فحسب قد يفضي الى تغييرها عبر انقلاب أو ثورة أو عصيان مدني، يحصل نتيجته تغيير في النظام السياسي. أما نقض شرعية الدولة فينخر عميقاً ليهدد كيانها بالتشطّر والإنقسام والتفكّك.

أيضاً يمكن رسم حدود (مائعة) بين الشرعية (الدينية) والشرعية (السياسية) رغم ما يبدو من صعوبة بالغة. ومن الناحية النظرية فإن الهويتين الدينية والوطنية قادرتان على توفير قدر من الشرعية للحكم، أي توفير القبول المستند على قناعة فكرية بحق فرد أو جماعة بأن تمارس الحكم. بيد أنه في المجتمعات المتعددة ثقافياً أو دينياً، تبرز مشكلة شرعية الحكم إذا ما اعتمدت على الدين/ المذهب كما هو واضح الآن في المملكة؛ فيُشار مثلاً الى أن المواطنين الشيعة (شرقاً وغرباً وجنوباً) لا يعترفون بشرعية الحكم القائم من الناحية الدينية.

إن تحصيل الشرعية الدينية في مجتمع متعدد دينياً أمر صعب، أولاً لأن لكل دين أو مذهب رؤيته الخاصة وفهمه الخاص لموضوع الشرعية، وللحكومة الشرعية، وهي ترتبط بفهم النصّ الديني، والمثال التاريخي. وثانياً، لأن لكلّ دين ومذهب هيكلية قيادية خاصة به، وتحصيل موافقة كلّ هؤلاء صعب حتى داخل المؤسسة الواحدة، فما بالك إذا كانت المؤسسة الدينية الرسمية المعتمدة لا تمثّل ـ كما هو الحال في المملكة ـ إلاّ فريقاً واحداً؟ وثالثاً، بالرغم أنه ليس مستحيلاً من الناحية النظرية على الدولة عدم التطرّق لدينها أو مذهبها الرسمي (اللغة يستحيل إغفالها) فإنها كما في إيران وفي المملكة ودول أخرى لا تفعل ذلك في كثير من الأحيان، كما لا تستطيع القضاء الكلي ـ في حال أرادت ـ على التمييز ضد (والمحسوبية لصالح) أتباع مذهب أو ديانة. وأخيراً، فإن الشرعية الدينية بهذا الإعتبار ضيّقة (غير شاملة) لكل المواطنين، وهي رغم الإصرار عليها، من قبل الحكام والمحكومين على السواء مختلف في تعريفها وتطبيقها (مثلاً: هل حُكم الغلَبة شرعي؟).

يمكن للقيادات الدينية المختلفة كما المواطنين تقديم ولائهم وموافقتهم للدولة أو الحكومة، ولكن هذا لا يساوي (=) بالضرورة ـ وبالنظر للتفسيرات المختلفة ـ شرعية دينيّة. هي كذلك بالفعل عند البعض، وهي عند آخرين تدخل ضمن مسمّى (الشرعية السياسية) أو (الشرعية الوطنية). فالقبول الشعبي بالحاكم قد يكون واحداً من مصاديق الشرعية الدينية، وتبقى عناصر أخرى ضمن القائمة الثلاثية: من يحكم ـ أي مواصفات الحاكم، وكيف يصل الى الحكم ـ الوسيلة، وكيف يستخدم السلطة السياسية في تحقيق الأهداف المشروعة. وعلى أساس هذه القواعد الثلاث تدور النقاشات والإختلافات.

أما الشرعية السياسية، فهي لا تتناقض بالضرورة مع الشرعية الدينية، بل قد تكون الأخيرة جزءً منها أو العكس. في بعض الدول (العلمانية) تتخذ السلطة الدينية طابعاً تشريفياً، ولا شرعية لتلك السلطة لغير الشرعية السياسية التي تستقي روحها من اختيار الجمهور. وفي قليل من دول العالم المحافظة والتقليدية تحتل الشرعية الدينية الواجهة وتعتبر السلطة مشرعنة دينياً، بحيث لا تشعر معها بالحاجة كثيراً الى الروح الوطنية كرابط بين أفرادها، ولا يعار ما عداها أهمية كبرى. غير أن أكثر دول العالم، خاصة في العالم الإسلامي، وللخاصية التي يتمتع بها الإسلام وإشرافه على مناحي الحياة الإجتماعية، هناك ما يشبه المزاوجة بين الشرعيتين والهويتين حتى بين أكثر الأنظمة عداءً للإسلام. هناك دول شرعنت نفسها دينياً بشكل قوي، ثم حاولت أن تمتدّ الى الجزء الوطني كي تصل الى (المختلف) في الدين أو المذهب، كما حاولت المزج بين شرعية السماء، وشرعية الإنتخاب (إيران نموذجاً).

في نموذج المملكة، لم تعدّ الشرعية الدينية المستندة على رؤية مذهبية محدّدة كافية لشرعنة النظام، أي تأسيس قبول عام للحكم القائم على أساس ديني. والحقيقة أن المختلف دينياً/ مذهبياً لا تنظر إليه السياسة الرسمية كمساهم في الشرعيتين الوطنية والسياسية. فالمواطن (الكافر أو المشرك) لا يمكنه أن يضفي على النظام القائم المزيد من الشرعية الدينية، إن لم تكن العلاقة معه مصدر نقض لتلك الشرعية كما دلّت الأحداث، إذ يتمّ الطعن في شرعية النظام لأنه لم يضع حدّاً فاصلاً بينه وبين مواطنيه، بحيث أصبح تطبيع العلاقة بين النظام وبين مواطنيه المختلفين في المذهب أو الدين (حسب موقفك) تهمة توجّه للعائلة المالكة التي لم تقمع بما فيه الكفاية مواطنيها، فوظّفتهم في مؤسساتها وسمحت لهم بأداء فريضة الحج، وأخذت منهم الزكاة. وعلى هذه الخلفية اعتبر جهيمان والسلفيون الجدد الحكومة كافرة([12]). ومحصلة الأمر، أصبح النظام حتى في شرعيته الدينية الناقصة، أسيراً لها ولمانحيها، كما هو أسير نتائجها السلبية، فهو إن حصّلها من جهة فقدها عند جهة أخرى. وكلّما زاد التصاقه بها، انتقص من شرعيته الوطنيّة/ السياسية، وفقد الولاء من الجماعات المذهبيّة الأخرى، وعمّق الحواجز بين المواطنين على قاعدة تلك الولاءات، حيث تعمد كل جماعة الى تمييز نفسها عن غيرها، وتحاول إحاطة أتباعها فكرياً وإعلاميا وتحرّضهم ضدّ الآخر، فيضعف الإتصال بين المواطنين وتتعمّق الإنقسامات.

لماذا تحتاج دولة ما الى تعزيز الهوية الدينية واعتماد الولاء الديني/ المذهبي لها قبل الوطني؟ هناك حالات مختلفة، فإذا كانت أكثرية السكان أو كلّهم يشتركون في معتقد واحد فإن الهوية الدينية تخدم الهوية الوطنيّة وتعزّز الشرعية السياسية، وتوحّد الجمهور. الهوية الإسلامية العامّة تفعل ذلك بكفاءة، بشرط أن لا تتغلّب الفروع على الأصول، ويصبح المذهب هو الدين، والهويّة المذهبية هي التي يجري التقاتل عليها، وبشرط أن لا يلغي المذهب ما هو مشترك بين بقية المواطنين (هويّة الإسلام نفسها). حتى مع اختلاف المذاهب، والإقرار بمذهب رسمي للدولة، يمكن أن تُحفظ وحدة الشعب، شرط أن لا يتمّ إغفال حقوق الأقليّات المذهبية وأن توضع الحدود الضابطة التي لا تتجاوز الخطوط الحمر التي يمكن أن  تُشعل فتنة بين المواطنين. وفي حالة المملكة فإن القضية أعقد، ذلك أن ثنائية (الأكثرية العددية والمذهبية مقابل الأقليّة) غير موجودة، فالمذهب الرسمي هو في الأساس مذهب أقليّة، مما يجعل مقارنة المختلف معه على قاعدة الحقوق السياسية والتعبير الديني مجحفة. وفي حال غياب الهوية الوطنية أو تغييبها بشكل متعمّد، تصبح الأخيرة غير قادرة على تجاوز السقطات والإختلافات التي تقع على خلفية طائفية، وغير قادرة على احتضان النظام السياسي ومدّه بأسباب المنعة والصمود (الشرعية الوطنية).

من هنا جادل عدد من الباحثين بأن "الإسلام [في السعودية] لم يكن أبداً يعني شيئاً واحداً لكل المواطنين، وهذا التنوّع في الفهم سبب مآزق إجتماعية وسياسية"([13]) وأنه "لم يكن قوة موحدة بعكس ما يفترضه المرء، إذ أن المجتمع [السعودي] مقسّم بين مذاهب متنافسة تحمل أفكاراً مختلفة فيما يتعلّق بمن يجب أن يمسك بالسلطة السياسية وكيف يجب أن تستخدم"([14]). وقد سبب التفسير الوهابي "أزمة مع كل التفسيرات الإسلامية المتنوعة، وكانت المواجهة عنيفة خاصة مع الرؤية الإسلامية للشيعة" والذي خلق من البداية "حواجز قاهرة في طريق التعايش، فضلاً عن التصالح"([15]). في حين جادل آخرون بعكس ذلك بأن الإسلام "واحد من  القوى الحاسمة الموحدة بين السعوديين"([16])، فهو يتضمن قيماً فوق قطرية (Transnational Values) "ساعدت في عملية دمج القبائل وشجعت قيام هوية فوق قبلية"([17]). بلحاظ الوضع في نجد لا شك أن الوهابية أطلقت طاقة هائلة بيد آل سعود "للقضاء على الخصوصيات القبليّة والمنافسين المدينيين من أجل تأسيس سلطتها العليا"([18]) ولكن من الخطأ جداً اعتبار الوهابية مساوياً (=) في قيمها لقيم الإسلام، ونجد مساوياً في أوضاعها وخصوصياتها خصائص مناطق السعودية جميعاً، وبالتالي فإن ما يمكن أن تلعبه الوهابية على صعيد الهوية الوطنية يبقى محدوداً برقعة جغرافية.

بالطبع فإن هذا وحده لا يفسّر تماماً سبب الإصرار على الهوية والشرعية الدينية، بشكلها المتناقض مع الهوية الوطنية. فالقيم الوطنية مؤسسّة على قيم ومعايير مختلفة تجدها صارخة الوضوح حين التطبيق. فالمواطنة والمساواة وفكرة السيادة والوحدة والدمج الإجتماعي، لا تجد اتفاقاً ـ على الأقل في المملكة ـ حول أولوياتها وكيفية الوصول إليها، لأن التفسير الديني الرسمي (السلفي/ الوهابي) له رؤية مختلفة تتناقض مع المعطيات والمعايير الوطنية بشأنها.

والسبب الأكثر أهمية بنظرنا، أن الطاقم الحاكم قد يفقد بعض امتيازاته إن حاول (شرعنة) نفسه على قاعدة الثقافة الوطنية، فهو قد يكون أكثر ثباتاً ولكنه من جهة ثانية ملزم بتقديم كثير أو قليل من التنازلات، بينما في الوقت الحالي، حيث الشرعنة الدينية الضيّقة، وغياب الهوية الوطنية، لا يجد نفسه ملزماً لأن التحاكم يتمّ على قاعدة دينية بتفسير ضيّق. وهو إن قدّم تنازلاً فلمانحي الشرعية الدينية وليس الجمهور ولا القوى الدينية والمجتمعية الأخرى.

ولذا، التفت بعض الباحثين مبكراً، الى حقيقة أن الطاقم الحاكم في المملكة لا يريد في الأصل ولا يعمل بالتالي من أجل خلق هوية وطنية. بل هناك رفض لكل التعبيرات الوطنية (الجمعية) حتى ولو كانت في خدمة السلطة السياسية القائمة في بادئ الأمر، إذ تخشى تلك السلطة أن ينقلب الحسّ الجمعي ويلزمها بما لا تريد؛ وإن الإعتماد على الهوية الوطنية وتقويتها كمصدر رئيسي للشرعية يستدعي تغييراً للقاعدة الثقافية التي يستند عليها نظام الحكم. إن التعبير عن الولاء للحكم بالتظاهر أمرٌ ممنوع، وكذا تأييد سياساته، بل يرفض استثمار أي ظرف سياسي في تعزيز الشعور المشترك الداخلي حتى في الظروف الإستثنائية (أزمة احتلال الكويت) ناهيك عن المناسبات العامّة والظروف الإيجابية (حتى في حال الإنتصارات الكرويّة!). ولذلك يعتقد على نطاق واسع، أن الهويّة الوطنيّة نفسها، ليست خيار الطاقم الحاكم، وهي على الأرجح ـ كما توقع ريتشارد نولت في بداية الستينات ـ ستكون إن تحققت مفروضة عليه وليست بسببه([19]).

الهويّة الوطنية لم تعطَ مطلقاً فرصة حقيقية للنمو والإنتعاش، فلا الطبقة الحاكمة ولا المحكومين بشكل مجمل اهتموا بها فضلاً عن ان يساهموا في بنائها وبلورتها؛ كما لا توجد سياسة رسمية لتعزيزها وتطويرها. الرأي الآخر قبالة هذا يرى أن "ترقية الهوية الوطنية اعتمدت كسياسة رسمية وعمليّة، وهي تعكس محاولات النظام لترسيخ موقفه وشرعيته"([20]).

إن تتبع مراحل هذه الهويّة وتطورها لا يبعث على التفاؤل؛ ففي أواخر الخمسينات شدّد أحد الباحثين على أن "فكرة أرض الآباء السعودية ربما تتجذّر، ولكنها اليوم في الأغلب مجرد فكرة أوّلية تجدها بين الجيل الصاعد" والذي لا يمثل سوى "أقليّة صغيرة من السكان"([21]). وفي منتصف الستينات كان الشعور الوطني "لازال محدوداً في مجموعة صغيرة من السكان الذين تلقوا بعض التعليم الحديث" والتغيير الوحيد الذي طرأ هو أن هناك "إدراكاً متزايداً بوجود دولة سعودية وبالقدرة على التمييز بينها وبين الدول العربية وغير العربية الأخرى" بسبب تطور الإتصالات والتعليم([22]). وفي نفس الفترة (أواسط الستينات) شدّد أحد الباحثين على أن الملك "قد أهمل كلياً تقريباً خطورة مهمة تعزيز المشاعر الوطنية بين السعوديين" ولذلك ـ يستنتج ـ بأن السكان أبعد ما يكونون عن "إدراك وجود دولة موحّدة ووعي سعودي وطني"([23]). وكتب م. و. ونر في منتصف السبعينات الميلادية أن غالبية السكان كان "ينتابهم إحساس غامض بالإنتماء الى مجتمع أكبر. ولكن يبقى من غير الصحيح مطلقاً الإعتقاد بأن الولاء السياسي الحديث قد نما أو تطوّر، بالرغم من التوقع الغربي الذي يربط نشأة الوطنية بوجود حكم قائم على أرض محددة"([24]).

وحتى نهاية السبعينات، فإن المملكة، حسب هيلين لاكنر كانت لاتزال تعاني من "نقص في الإنسجام الوطني على المستويين السياسي والإجتماعي"([25]). وأخيراً خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، شهدت المملكة أسوء (كارثة) على صعيد الهويّة الوطنية. فخلالهما تسارعت الخطوات باتجاه (تنجيد) جهاز الدولة بشكل لم يسبق له مثيل، وترافق ذلك مع إزاحة الحجازيين عن مواقعهم، ومع انفجار في الهويات الفرعية القبلية والمناطقية والمذهبية سواء لدى الشيعة أو السلفيين، يعزّزها في ذلك المشاعر الطائفية الصارخة، وإزاحة المختلف بحجج أمنية عن الأعمال والوظائف، وجاء التراجع الإقتصادي ليزيد الأمور سوءً على سوء، بحيث أصبحت معه المشاعر الوطنيّة في أدنى مستوياتها من حيث التمظهر الإيجابي والجاذبية.

ربما يجادل البعض، بأن شعور الحاجة لخلق أو تعزيز الهوية الوطنية خلال السنوات القليلة الماضية تضاعف بسبب سحب بساط الشرعية الدينية والذي تمّ بشكل جزئي عن النخبة الحاكمة، من قبل أفراد وجماعات سلفية متزايدة العدد؛ وهذا الشعور (الأوّلي) قابل للتطوير، حتى وإن جاء على خلفية أزمة الدولة والمجتمع وفي أوضاع استثنائية. ولكن لا يستبعد أن يضمحلّ هذا الشعور الضعيف، إذا ما تغيّر المناخ، خاصة وأنّ خطوات واضحة وجديّة لم تتخذ على أرض الواقع.

يبقى أن نشير، الى أن الطاقم الحاكم ليس وحده من يستشعر الخوف من وجود هويّة وطنيّة، بل هناك فئات في المجتمع ترى فيها خطراً مماثلاً. فحين يكون جهاز الدولة في مجمله حقّ محتكر من قبل فئة دينية ومناطقية تشرعن ذلك على أُسس طائفية وغيرها، تصبح الهوية الوطنية مصدر تهديد لذلك الإحتكار، لأن مضامينها المساواتية في المواطنة ـ في الحقوق والواجبات ـ تهدّد المحتكرين للسلطة وامتيازاتها في الصميم. ولهذا السبب أيضاً، فإن الإصلاحات السياسية في المملكة، ليس فقط لا تلقى صدىً لدى الطاقم السياسي، والمؤسسة الدينية، بل ولدى النخب الطائفية والمناطقية المنتفعة من الوضع القائم أيضاً.

ولربما يمكن القول بقليل من التردّد، أن ما يُسعى إليه بالفعل لا يعدو إبقاء خيط رفيع للغاية من الحسّ الجمعي الذي يبقي الدولة في مظهرها متماسكة يوفرها جواز وعملة وبطاقة شخصية وخضوع مشترك لنظام سياسي واحد، يقول أحد الباحثين، أنه يولد (وعياً بهويّة مشتركة)([26]). ما تحت هذا المستوى (الوطني!) يكون الهمّ السياسي العام مسألة داخلية للجماعة المسيطرة، وتكون الهويّة المذهبية المناطقية هي المسيطرة على مقادير الدولة، وتصبح الشرعية الدينية ضرورة لسيطرة الجماعة الصغيرة، أي يكون على أساسها (الإقصاء) كما وتصبح الشرعية الدينية حافظاً لوحدتها، وسدّاً مانعاً أمام ممارسة اللعبة السياسية على قاعدة وطنيّة.

 

الهويتان السعودية Saudism والنجديّة Najdism

 

ما أسعى للمجادلة بشأنه هنا، هو أن الهويّة الوطنيّة ـ السعودية لم تُخلق بعد، وأن ما يجري فرضه والترويج إليه لا يبتعد كثيراً عن خصائص الهويّة الجهويّة الفرعية، التي ليس بإمكانها أن تأخذَ مقعد الهوية الوطنية ولا أن تلغي الحاجة إليها. كما سأجادل بأن تضخّم هذه الهويّة الفرعيّة يعدّ أكبر معوّق لتطور الهوية الوطنيّة (السعوديّة) ولصناعة الثقافة الوطنية والمشاعر الوطنية.

لمقاربة هذا الموضوع، يجدر بنا توضيح عناصر الهويّة النجديّة، وهي تشير من وجهة نظري الى ثلاثة أمور: أولها الإقليم أي المساحة الجغرافية التي يطلق عليها (نجد)؛ وثانيها، الثقافة المشتركة حيث يشكّل المذهب (السلفي/ الوهّابي) العنصر البارز والموحّد فيها؛ وثالثها، القيادة السياسية المحددة في العائلة المالكة السعوديّة والمنحدرة من هذا الإقليم والمتبنية للمذهب وترويجه، والمشرعنة نفسها ضمن بوتقته. أما الهوية الوطنيّة السعوديّة المقصودة (أو المتصوّرة) فهي تفترض الإشتراك مع نجد في موضوع القيادة السياسية، التي أسّست الدولة وأقامتها، ضمن حدود معيّنة تحددها قدرة تلك القيادة في الخروج من شرنقة الإنتماء المناطقي والمذهبي، كما وتحددها السياسات التي تنتهجها وقدرتها على إقناع الجمهور خارج الإقليم النجدي بأنها تمثّل وطناً بأكمله وليس مجرد منطقة بعينها([27]). كما أن الهويّة الوطنيّة تشير الى رقعة أوسع من الإقليم، الى أكثر من مليوني كيلومتر مربع، والى عمق ثقافي وطني مشترك يجمع المناطق، ويتعالى على المذاهب، تساهم فيه كل المناطق بحيث يبدو وكأنه مخلوق ثقافي جديد.

إن الهويّات المناطقية في المملكة متعمّقة الجذور، فقد استكملت نجد بناء هويتها الخاصة التي أشرنا إليها في حدود عام 1915م، حين اكتملت عناصر الصهر للقبائل ضمن مشروع (الإخوانية) الديني، وتمّ على إثرها اكتساح القوى السياسية المتناثرة، فقضت على التصدّع وصار بإمكانها معتمدة على العصبية النجدية القيام بمهمّة التوسّع خارج حدود نجد. أما الهويّات الفرعيّة الأخرى خاصة في الحجاز والشرق، فهي قد سبقت نجد بزمن من حيث اكتمالها، ولكنها لم تستطع الصمود أمام العصبية النجدية، التي قدّر لها النجاح والسيطرة، ومن ثمّ قيام الدولة.

هنا حدث أمران مهمّان جعلا أمر قيام الهويّة الوطنيّة معقّداً. فقيام الدولة بحدودها المعروفة، يفترض أن يساهم في خلق الهويّة الوطنية، خاصة مع انتهاء مرحلة الحروب والتشرذم الداخلي، وإعادة أسلمة الكفّار (خارج نجد) على المستوى النظري في الأقل. لكن ما حدث أمران: الأول، إصرار العصبيّة الغالبة عسكرياً على فرض مصالحها وهويّتها لتكون هي الهويّة الوطنية السائدة، دون أن يكون لها من الناحية الواقعية القدر الكافي من القوة لصهر عناصر تميّز الهوية في المناطق الأخرى. والثاني، وهو نتيجة لما سَلَف، فشل سياسة (الدمج الوطني) لأنها لم تكن مطلوبة في الأصل، وقام مكانها سياسة (تنجيد) جهاز الدولة Najdi'ization في مختلف المجالات بصورة فاقعة مع إبقاء بعض (الديكور) أحياناً ليخدم أغراضه المحليّة. وهذا بدوره قاد الى أمرٍ خطير آخر، وهو تحول المؤسسات الحكومية الى مؤسسات خاصة، بمعنى تحولها (او بعضها) الى مؤسسات نفع خاص. ومع الإصرار على قمع الهويّات الفرعيّة رسمياً، لم تبق إلا واحدة منها سائدة مسيطرة، أمّا المقموعة فقد تعمّقت عمودياً ولم تُلغ حتى على السطح بشكلها النهائي([28]). وبذا صارت المملكة مجتمعات متجاورة تفتقد الإنسجام، وتتحاسد فيما بينها، ويتّهم ويخشى بعضها بعضاً.

ما هو سائد الآن لا علاقة له بهويّة وطنيّة من قريب أو بعيد، إلا من الزاوية السلبية. من يمسك بزمام السلطة معروف، ولا يحتاج الى أرقام أو أسماء، بل صار إعلان ذلك أمراً اعتيادياً، كما قال أحد المسؤولين "نحن نفخر بأن أكثر موظفي الدولة هم من القصيم"([29]) وكذلك الجيش والحرس الوطني، والجهاز المالي، ومجلس الشورى، ومجالس المناطق وأمرائها، والمذهب الرسمي، والثقافة والإعلام.. كلّها تشير الى هوية مناطقية محدّدة؛ وعلى حد تعبير غسان سلامة "كل واحد يعرف أن السلطة الحالية هي بشكل أساسي سلطة نجديّة"([30]). وبالتالي فإن الولاء للدولة أولاً، وللحكومة ثانياً لا بدّ أن يتضعضع، وتصبح المشاعر زاهدة في ما هو وطني وتنحو باتجاه الهويات الخاصة التي يتم عبر تعزيزها التمهيد للإنفصال، أو التهديد به، او تحصيل أكبر قدر من (الغنيمة) للجماعة الثقافية أو الأثنية ـ إن صحّت هذه الصفة.

من الطبيعي جداً، ونحن نتحدث عن اشتراك جهاز الدولة ومسؤوليها الكبار في المعارك الصامتة على أسس غير وطنية، أن يكونوا هم بذاتهم ضحايا لها. بمعنى انسحاب الولاء عنهم واعتبارهم جزءً من الخصم المنافس. ومشكلة الولاء السياسي حين تطرح لإقصاء جماعة ما من المواطنين، أنها ارتبطت بعناصر الهويّة الفرعيّة. فمشكلة الولاء السياسي لا تنحصر بالدولة فحسب، من زاوية أن المواطنين جميعاً ينتمون لمذاهبهم ومناطقهم بأكثر وأقوى من انتمائهم لها، وأنهم بمن فيهم النجديين يتمتعون بقابلية التضحية بالدولة إذا ما تعارض ذلك مع خصوصياتهم الضاربة في الأرض. ليس هذا فحسب، بل أن الولاء للنخبة الحاكمة ارتبط أشدّ الإرتباط بالولاء للمذهب (الوهابية). وهذا أكبر خطأ وتحدٍ في نفس الوقت تمارسه تلك النخبة. فالولاء السياسي المدمج بالولاء الديني، أو المؤسس على قاعدة دينية، يخرج غير النجديين عن تصنيف (الموالين) و (المؤتمنين). حدث في مقاطع التاريخ أن الولاء للمذهب أثناء عملية التوسع في أطراف نجد (الخرمة وتربة مثالاً) سبقت الولاء السياسي لآل سعود، أو كانت مقدمة للولاء لهم؛ وربما قادهم هذا الى الإعتقاد بأن تعزيز المذهب وسيادته سيؤدي الى تطوير الولاء لهم بين غير النجديين. الذي يحدث هو عكس ذلك تماماً. فلا المذهب كسب أتباعاً جدداً يعتدّ بهم، ولا تطور الولاء السياسي، بل انتقص بسبب محاولات الإكراه وتحميل الطاقم السياسي مسؤولية انتقاص وقمع خصائص الآخرين الدينية والثقافية.

ويقف الذهن الشعبي مشدوهاً أمام ألغاز محيّرة. فالبعض يرى النخبة الحاكمة مجرد قيادة (نجدية وهّابية) أي أن الهويّة الوطنيّة تتمثل مشكلتها في غياب القيادة (الوطنية). والهويّة السعودية من وجهة النظر هذه، هي هويّة غير وطنية بل ناتجاً من الهويّة الدينية (Wahhabism). بعض آخر يرى أن الهويتين السعودية والوهابية وجهان لعملة واحدة، وهناك من يؤمن بأن الهويّة السعودية هي هوية وطنية (ناقصة) ولكنها تختلف عن الوهابية السياسية (الهوية النجدية أو/ Political Wahhabism) التي يرفضها. بمعنى وجود تضادّ بين الهويّتين والولائين، وأن سيادة الهويّة النجديّة والولاء لمعتقدها الديني، جاء على حساب الهويّة السعودية.

يظهر في بعض الأحيان، أن النخبة الحاكمة والمتعلمة في نجد، ترى أن (الوهابية) كمذهب عنصر مهم من عناصر الهويّة النجدية إلا انه يمكن أن يكون عنصراً فاعلاً في الهويّة الوطنيّة، فإذا كان قادراً على تصليب القاعدة الوحدوية في نجد، فلم لا يلعب نفس الدور على صعيد المملكة نفسها؟ هذا التساؤل هو الذي قاد بعض الباحثين الى اعتبار الوهابية عنصراً توحيدياً مهماً في صنع الهويّة الوطنيّة السعودية، في حين وجدها آخرون عنصر تمزيق وسبباً لمعارضة النخبة الحاكمة، يقول "يبدو على الأرجح أن المنشقين سيوجهون سخطهم باتجاه الوهابية التي لا يتحمسون لها، وهي التي فرضها النجديون المحتلون عليهم كمذهب رسمي للدولة"([31]).  إن تكرار تجربة التوحيد الفكري والسياسي للقاعدة النجدية، وهي تجربة فريدة ومتميّزة، وتطبيقها على بقيّة المناطق دون الإلتفات الى محليتها وظروفها الموضوعية الخاصّة بها هو من السقطات الكبرى في فهم المناطق.

هناك ثلاثة أسباب جوهرية تجعل من (الوهابية) غير قادرة على تكرار التجربة على الصعيد الوطني وهي:

1 ـ ويتعلق بقدرتها الخاصة من حيث المنشأ والمعتقد والجاذبية والتجديد والقابلية على هضم المختلف وغيرها. وهنا لا نأت بشيء جديد، حين نقول بأن المذهب السلفي (ونحن هنا مجبرون على تسميته بالوهابي لا بقصد الإنتقاص ولكن بقصد التمييز) له قدرة محدودة على الدمج المذهبي، لعداوته التقليدية للمذاهب الإسلامية الأخرى([32])، ولكونه المذهب المغلق الذي لا يستقطب سكان المدن المنفتحة. وأيضاً لكونه مذهباً (محلياً) فهو مذهب نجدي، نشأ في نجد وترعرع فيها ولا يقبل السيادة من خارجها، وجاء استجابة لحاجة نجد السياسية، ولدعم السياسة فيها، لذا لا يستطيع أن يتحمّل رأساً غير نجدي، ولا يقبل أتباعه بأقل من الرئاسة فيه، ولا يعامل المنتمون اليه بعيداً عن مناطقهم وبلدانهم وعنصرياتهم. وهذا واحد من أسرار عدم قدرة المذهب الوهابي على استقطاب فئات ذات وزن ودمجها في المذهب، لأن أصحابه أيضاً يخافون أن يأتي آخرون ويستخدمونه للسيطرة عليهم. المذهب الوهابي مذهب محلي، والدعوة السلفية الوهابية هي (الدعوة النجدية)، وجعل الدعوة عامة والمذهب (قومياً/ وطنيّاً) يحتاج الى: قطع احتكار النجديين له ولتمثيله، وإذا ما أرادوا نشره في الخارج فهم قادرون بغير المال، شرط أن يتخلّوا عن عنصر السيادة فيه وعبره. هذا لو تمّ فسيحدث تغييرات عميقة داخل المذهب من الناحية الفكرية لأن المنتمين الجدد سيؤثرون فيه ويطعمونه بالأفكار والرؤى الجديدة ويجعلونه أكثر حيويّة وتماشياً مع الواقع.. أكثر اعتدالاً، أو قلْ أقلّ تشدداً.

إن واحداً من أهم أسباب جمود المذهب الوهابي هو عدم تطعيمه بدماء جديدة من خارج نجد، أي من خارج البيئة المتشددة المغلقة والمحاطة بالعنف والخشونة التي نشأ فيها، وهو يعكس الآن ثقافة نجد والتنوع القبلي والعائلي فيها، كما يعكس مطامحها بأكثر مما يعكس روح الإسلام وقيمه. ومهما بلغ التأييد للمذهب من قبل منتمين جدد يدافعون عنه، فإنهم لن يصلوا إلى سلّم المراتب العليا، ما لم يكونوا نجديين. فالمذهب مناطقي، قبلي، وهذا ما يجعل المتعاطفين أو حتى المقتنعين به لا يجدون مكاناً لهم إن كانوا من خارج المحيط، بل يعاملون كأتباع صغار. والمذهب الوهابي يريد أتباعاً خارجيين من غير نجد، تكون مهمتهم احتلال مواقع التنفيذ والتبشير والدعاية له.. ولكنه لا يحبّذ بل ربما لا يسعى أو لا يقدر على استقطاب زعامات إسلامية كبرى.. جلّ ما يريده أن تكون تلك الزعامات محايدة توفّر غطاءً للنظام السياسي وقبولاً صامتاً بالمذهب وعدم نقده. وإذا كان التفاضل بين المواطنين قائم على أساس القرب من المذهب الرسمي والمنطقة التي نشأ فيها، فقد لا يراد له بالضرورة التوسّع، لأن في توسّعه إشراك الآخرين في المصلحة الخاصة، وإدخال (مفاسد!) من خارجه إليه.

2 ـ ويتعلق بدرجة المقاومة الدينية/ المذهبية لسياسات الصهر الثقافي في البوتقة الوهابية. فالأخيرة نجحت في نجد وخاصة بين القبائل لسببين: أن هذه القبائل لم تكن تشكّل تحدياً فكرياً، وإنّما كانت متلقية للفكر، بمعنى أن هناك فراغاً (مذهبياً دينياً) جاءت الوهابية فملأته، وهذا لا ينطبق عن المناطق الحضرية في الشرق والغرب والجنوب وحتى الشمال، حيث تعدد وترسّخ المدارس الفكرية. والثاني: استخدام العنف وشرعنته ضدهم ثم ضدّ الخارج ـ غير المسلم ـ الأمر الذي لاقى هوى لدى القبائل حيث تحول الغزو القبلي الى جهاد، والنهب الى غنائم يعطى الإمام خمسها. ولذا نرى أن المذهب الرسمي أقدر ما يكون على النفوذ في مناطق القبائل والبادية، حيث يغيب التنافس الفكري والتعدد الثقافي.

لا أحد يدّعي أن الحجاز او الجنوب أو الشرق تحوّل مذهبياً، فالقناعات مترسّخة والفوائد المرتجاة من التحوّل المذهبي قليلة، والقضية أكبر من تغيير مذهب، بل تغيير منظومة ثقافية وهويّة. ليست المسألة أيّهما أحقّ أو أصحّ: المذهب الوهابي أو المذهب الشافعي أو المالكي، وإنّما الخطير فيما يتعلق بتغيير الهويّة ذلك الجزء الذي يرتبط بالذاكرة التاريخية، والخصائص المناطقية. قد لا تكون الفوارق كبيرة بين هذه المذاهب، ولكن لا تستطيع أن تمحي من ذاكرة الحجازي، أن هذا المذهب الذي يروج له، والمطلوب منه أن يستبدله، هو الذي قاد الى قتل آبائه وأجداده (الكفرة) وهو الذي جعله مواطناً من الدرجة الثانية، وهو الذي سحب منه الزعامة الدينية من مكة الى بريدة. ضمن هذا الوعاء هو يرفض المذهب الرسمي. من هنا يمكن أن ندرك أهم أسباب فشل التبشير المذهبي داخل المملكة قبل خارجها. وإذا كان قد حدث استقطاب قبلي للجنوب وبادية الحجاز على أسس تبدو في ظاهرها مصلحية للطرفين، فهذه المصلحة المختلّة لحساب الطرف الأقوى قابلة للتبدّد.. وهناك دعوات عديدة لن يكون آخرها (ناصر العمر) إلى فرض (الإسلام والعقيدة الصحيحة) على المواطنين وبوسائل عنفية دموية شبيهة بما مورس قبل قيام الدولة([33]).

3 ـ ويتعلق بالوسائل المستخدمة في التطويع (الصهر) الديني والثقافي. وهي في مجملها وسائل حادّة عنيفة، بدأت قبل قيام الدولة بالقتل للكفار، واستمرت على منهج التكفير بعدها دون القتل، ولكن عبر وسائل الضغط الإقتصادي والتمييز الطائفي، ودرجات عنف أدنى من القتل، إضافة الى القمع الرسمي للخصوصيات المحلية. ولأن القتل والتهجير كما حدث في بداية تأسيس الدولة غير قابل للتكرار، وإن كان هناك إلحاح شديد لتجربته مع المواطنين الشيعة، فلا تبق إذن إلا أدوات السلطة في هذا المجال. وقد أدى التوسع في استخدامها الى تعميق الثقافة الخاصة مقابل الثقافة الرسمية، وليس الى انحلالها، فحين تعدم وسائل الإقناع لا يبدو أن وسائل الجبر الثقافي في هذا الزمن ممكنة([34]). والجبر في فرض المذهب يعكس حقيقة أن النجديين لا يشكّلون أكثرية عددية بحيث تستطيع أن تذيب الأكثرية في ثقافتها الخاصة.. في أفضل الظروف يمكن القول أن لديها قدرة (محدودة) في الإمتصاص والتذويب، خاصة وأنّ تراث نجد الثقافي والفكري مسألة حديثة لا تتجاوز القرن، وهذا التراث يقع في مجمله ضمن التراث الخصامي المذهبي غير الجامع.

لهذا كلّه، لا تستطيع الوهابية أن تكون عنصراً مكوّناً للهويّة الوطنية، إلا إذا تخلّصت من جمودها وتطرّفها، فضلاً أن تحتل هي بقضّها وقضيضها مقعد الهويّة الوطنية. إنها ، كما يشدّد ونر، تجعل الهوية الوطنية السعودية "حرفياً مستحيلة"([35]). وهذا ليس بسبب أن الإسلام لا يتواءم مع الوطنيّة، أو لأنه في النموذج السعودي/ الوهابي "تفادى الحاجة الى حملة وطنية مكثفة ربما كانت ستخدم خلق شعور وطني بين الفئات الإجتماعية العريضة من السكان"([36]) بل باختصار، لأن خصائص الوهابية شديدة التطرّف. وحتى مفهوم الأمّة، لا تستطيع الوهابية خدمته، إن كان على أرضية الإسلام بتفسيرها أو على أرضية وطنية بتحليلها الخاص. إن "استمرار سلطة عتاة المحافظين من العلماء الوهابيين يمنع تطور مفهوم الأمّة؛ ونتيجة لذلك وحتى بين أقلية السكان التي لديها الوعي بوجود أمّة سعوديّة، قليل منهم فقط طوروا شعوراً وطنياً مقارنةً بنظرائهم في معظم الدول حديثة النشأة"([37]) ولذلك اتخذ الشعور الوطني رغم محدودية انتشاره، معنى أقرب ما يكون الى الرغبة في التحديث، على أمل أن يجد "الوطنيون السعوديون" موقع قدم في الجهاز السياسي شبيه لما حدث لنظرائهم في البلدان العربية([38]).

بيد أن هناك أسباباً واقعية تجعل النخبة الحاكمة غير قادرة على تجاهل فوائد النزعة المذهبية والمناطقية النجدية وتعزيزها. ربما ينتاب تلك النخب شعور بأن الولاء لها خارج حدود نجد غير مضمون أو هو (مؤقّت) أو غير عميق، ولا يمكنها والحال هذه أن تضحّي بعصفور في اليد مقابل عشرة على الشجرة. وثانياً فإن المذهب وروافده ومؤسساته قوّة حقيقية على الأرض، هي جزء كبير من جهاز الدولة القضائي والتعليمي والإعلامي، وهي فوق هذا عامل قوي في توحيد نجد، وفي منح الشرعية للحكم. إن الوهابية ـ حسب تعبير ج. نيفو ـ هي التي خلقت نوعاً من "الإقليمية النجديّة الوليدة" عبر تحويلها عشرات من السلطات الصغيرة الى بناء يتجاوز البيوتات الصغيرة الحاكمة ويسمو فوق القبلية ([39]). وثالثاً، فإن المذهب "عامل يوحّد النجديين خلف السلالة السعودية"([40]) على أسس دينية، ولكن "لا يمكن ـ حسب سلامة ـ استخدامه بشكل كبير في شرعنة السلطة الراهنة"([41]).

إن الإلتصاق بين المذهب والعائلة المالكة قويّ، فكلّ منهما يشرعن الآخر ويدعم وجوده، وإن إضعاف أحدهما هو إضعاف للآخر؛ أي أن هناك مصالح مشتركة([42]). إن الوهابية وآل سعود "ومن الناحية العملية لا ينفصلان؛ فإضعاف أو تشويه أحدهما يؤدي الى فقدان شرعية الآخر. وإن تقوية النظام للمذهب هو تعزيز للذات وحقها في الحكم" ([43]). ولذا لم تأت رعاية المذهب كمذهب للدولة وكممارسة دينية فحسب ولكن "كمكوّن جمعي للهوية الوطنية" أيضاً ([44]). وبدون العائلة المالكة المرتبطة بالسلطة الدينية الرسمية، فإن تفكك الدولة الى أجزائها التاريخية سيحدث([45]). أيضاً فإن الوهابية "لا يتوقع لها الإستمرار ككينونة مستقلة منتعشة، بدون البيت السعودي"([46]) وإن خضوعها له لا يغير من حقيقة أن "سيطرتها ومقامها المتميّز في المملكة مضموناً"([47]). لذلك كلّه لا يتوقع أن يتخذ البيت الحاكم دور "المتراس ضد النخب الدينية" كما توقع أحد الباحثين([48])؛ ولا يتوقع انحداراً سريعاً لدورها في الحكومة والمجتمع؛ وأخيراً لا يتوقع في غياب ضغط وطني حقيقي داخلي حدوث أزمة خطيرة بين الطرفين تدفعهما للتضارب والمواجهة. على العكس من ذلك، إن الشعور المشترك بالخطر يضغط باتجاه المزيد من التلاحم، والمزيد من الانغماس في سياسة (تنجيد) و(توهيب Wahhabi-ization) الدولة في شتى الأبعاد الثقافية والسياسية والإقتصادية والعسكرية. إن اللغة التصالحية هي التي سادت (مجملاً) وستسود على الأرجح مستقبلاً في حال حدوث أي مشكلة (داخلية) بين الطرفين.

قادت أحداث الثمانينات والتسعينات بعض الباحثين الى الإعتقاد بأن الحكومة ستحاول استخدام الهويّة الوطنيّة لتحلّ محل الهويّة النجديّة، وأنها ستقلّص من حجم القوّة الذي أُعطي للسلفيين خلال تلك الفترة. لا توجد مؤشرات على هذا الإعتقاد، ربما كان هناك تلويح مؤقّت بعصا وطنية لم تطبّق على أرض الواقع. الذي حدث عكس ذلك تماماً، فقد تمّ توسيع دور المؤسسة الدينية خلال نفس الفترة (لأسباب داخلية وخارجية) ومنحت المزيد من السلطات "قادت الى تعزيز أكثر نشاطاً في فرض قوانين الوهابية وتقاليدها في الحجاز والمنطقة الشرقية"([49]). وخلال نفس الفترة بذلت العائلة المالكة "جهداً حثيثاً لجعل الوهابية مذهب الدولة والمساهم الرئيس في الهوية السعودية الوطنية"([50]). متوازياً مع هذا المسعى، تسارعت عملية تنجيد الدولة في الثمانينيات على كل المستويات البيروقراطية مفضلة "التكنوقراط وموظفي الدولة النجديين على النخب الحجازية البرجوازية الأكثر تطوراً سياسياً ووعياً واللبراليين دينياً"([51])، مما أثار سخطاً غير عادي لاتزال أصداؤه تتردّد الى الآن. لقد أجبر الحجازيون التكنوقراط على الإستقالة أو "طردوا أو همّشوا سياسياً. وفي أكثر الحالات عيّن في مواقعهم تكنوقراطيون نجديون"([52]). وعدّت النخبة الحجازية الإطاحة بأحمد زكي يماني وزير النفط الأسبق، ومن بعده هشام ناظر "علامة أخرى على تآكل وضع الحجازيين وعلى تنجيد الدولة في مجالي الحكومة والإقتصاد"([53]) وسبقها الأمر في الجيش النظامي.

التحليل المتوفر لهذه العقد المتداخلة يفترض أن قيام الهوية الوطنية، سينزع مخالب الهويات المناطقية جميعاً وفي المقدمة النجدية منها، بالشكل الذي يضعف القبضة على مفاصل القرار الوطني، ويفسح الطريق لاحقاً لظهور مطالب على قاعدة ثقافة وطنية. فكيف يمكن الإستمرار في احتكار السلطة وتسويد الهوية النجدية من جهة، وإبقاء البلاد موّحدة في غياب الهويّة الوطنية من جهة أخرى؟ الرؤية العامة للنخب الحاكمة تميل الى الإعتقاد بأن "وحدة نجد" مرادفة لـ "وحدة الدولة"، ربما مقدّمة عليها، وشرط لضمان استمرارها. فبها يمكن مكافحة أية إنشقاقات عنفية بما في ذلك الإنفصالي منها إذا ما تطوّر، ولأنّها بقوة عصبيتها صنعت (الدولة) وتمسك بخيوط السلطة والقوة فيها، فهي الأقدر (طالما هي متماسكة) في المحافظة عليها، خاصة وهي تمسك كل أجهزة الدولة وفي المقدمة الأمنية والعسكرية منها.

يتضح من هذا كلّه، أن الفلسفة تتجه لتعزيز الهوية النجدية لتكون هي الهوية الوطنية، إن لم يكن الآن فمع الزمن تصبح كذلك. ووفق هذا التحليل، لا تستطيع العائلة المالكة إلاّ أن تكون ممثّلة لمنطقة من الناحية السياسية، والمذهب لا يمكنه إلا أن يكون مذهباً محليّا يقاس به الولاء السياسي وتقدّر وفق معاييره معاني المواطنة والعدالة والحقوق البديهية للأفراد. أما الهويّة الوطنيّة فمؤجّلة في رحم الغيب.

 

العائلة المالكة.. الولاء والمواطنة

 

هناك قضايا عديدة بحاجة الى نقاش تتعلّق بموضوع الهوية الوطنية، نحاول هنا التعرّض إلى اثنتين منها بقدر من التفصيل والتحليل.

الأولى وتتصل بعلاقة العائلة المالكة بالدولة. وفي هذا الصدد لا بدّ من التنبيه الى أن العائلة المالكة وأياً كانت أغراضها الخاصة، هي التي قامت بالجهد الأساسي في صناعة الدولة الحالية، وهذه ميزة تعطى لها، مع الأخذ بعين الإعتبار أن الدولة قامت على أنقاض دول وإمارات مستقلّة، وما يعدّ ميزة من وجهة نظر (وحدوية) هي (مذمّة) من وجهة نظر (إنفصالية) أي لدى أولئك الذين يشعرون بأن العائلة المالكة ليس فقط قوّضت سلطانهم السياسي الإستقلالي الخاص، وإنما فرضت عليهم خياراً سياسياً وثقافياً لا يرغبون فيه أيضاً. ولأن القوة كانت العامل الوحيد في عملية التوحيد السياسي، فإنها كانت عنصراً مانعاً في تصليب الأرضية التي قامت عليها الدولة، وولّدت عمليّة التوسّع العسكري تحديات على أساس افتراض أن السكان في المناطق المحتلّة "غير موالين للسعوديين"([54]). وبعبارة أخرى، ليست هناك وسائل ديمقراطية تثبت وجود (أو يمكن القياس من خلالها درجة) الولاء، في ظل دولة "ولدت بالسيف وليس بالإجماع الشعبي أو الإنتخاب الديمقراطي" على حد قول بعضهم([55]).

المسألة الأخرى وتتعلّق بإسم الدولة نفسها، وليس في طبيعة الوحدة وآثارها على الولاء السياسي فحسب. بانتهاء احتلال الحجاز في يناير 1926، وإنهاء دولة الأشراف فيها، وحين بدا أن ليس بالإمكان التوسّع في كل الإتجاهات، تزايدت الحاجة الى وضع إسم يعبّر عن هويّة (الممتلكات) الجديدة، في ظل بروز أنوية الدولة القطرية تحت مظلّة الإحتلال الأجنبي سواء في العراق والأردن أو بلاد الشام ومصر وغيرها. لم تكن هذه الممتلكات قد وحّدت من قبل، ولا يوجد لها إسمٌ تاريخي جامع، وإنّما مجموعة من الأسماء منفصلة تعبّر عن خصائصها التاريخية. قبل هذا التاريخ كان يمكن التجاوز والقبول بالتسمية (نجد) ثم (نجد وملحقاته: الأحساء والقطيف والجبيل!)، ثم سلطنة نجد وملحقاتها، ثم مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها، ثم مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، وهي كلها أسماء غير قابلة للديمومة، خاصة وهي تحمل بذور الإختلاف الحادّ بينها. قُـرّر منذ البدء أن تكون البلاد مملكة، تماشياً مع النهج البريطاني في تسمية الأقطار العربية (كان الحجاز مملكة في عهد الأشراف، وكذلك أصبح العراق مملكة، ومصر، وأخيراً الأردن). وقد فكّر مستشارو الملك أن لا يتضمن إسم الدولة التسميات القديمة للمناطق التي يتكون منها، وأن يحتوي كلمات تدلّ على موقع العائلة المالكة فيها، وأن تؤكّد عروبة الدولة، خاصة وأن حروباً عديدة قامت للتخلّص من الحكم العثماني، والنقمة الوهابية على العثمانيين لا تحتاج الى تذكير. وبهذا اهتدي الى إسم: المملكة العربية السعودية، الذي حلّ إشكالاً وصنع إشكالات أخرى فيما يتعلق بالهوية الوطنية (السعودية). هل كلمة (سعودي) تُنسَبْ الى العائلة المالكة أم إلى الأرض، الدولة؟ تقول: هذا مواطن سعودي، نسبة الى الدولة، وهذا أمير سعودي، نسبة الى العائلة المالكة السعودية. والسعوديون هل هم الأمراء أم المواطنون؟ إذ في كثير من الأحيان يجري الخلط بينهما ولا يفهم المقصود في سياق الحديث أو الكتابة إنجليزية كانت أو عربية. والجنسية السعودية التي يفترض أنها تتعلق بالدولة، تخلط بين مفهومي المواطنة والرعية؛ وأيضاً فإن نسبة الدولة للعائلة المالكة قد تعني (تملّكاً) وتعني (توصيفاً) لها أيضاً، وهناك شواهد على كلا الأمرين. وإزاء هذه الحيرة، هناك من يرفض تسمية الدولة الحالي، إمّا على قاعدة رفضه للنظام السياسي فيها، أو على قاعدة أنه من غير اللائق نسبة شعب الى عائلة مالكة مع قبول بموقعها السياسي، أو على قاعدة رفضه للدولة بأكملها.

من الناحية العمليّة، فإن إزاحة كلمة (السعودية) من الإسم، أمراً غير ممكن، فبدونها لا معنى للإسم. والبدائل التي طرحها المعارضون: شبه الجزيرة العربية، الجزيرة العربية، الحجاز، إمّا تزيد أو تقصر، فالمملكة ليست كلّ هذا من حيث الجغرافيا والأصل التاريخي. لقد كان هناك ما يشبه الفراغ في التسمية، فجاءت كلمة (سعودية) لتحتلّه. العقدة الحقيقية تكمن في أن ربط هوية الدولة بالعائلة المالكة وإن قُصد منه شرعنة الأخيرة([56])، فإنه خلق معوّقاً جديداً للهويّة الوطنية، وبدل المجادلة بأن "مستقبل الهوية السعودية قد رُبط طبيعياً بمستقبل الملكية السعودية"([57]).. من الصحيح أكثر القول بأن درجة النجاح في بناء الهويّة الوطنية (السعودية) هو المحدد الرئيسي لمستقبل العائلة المالكة. نعم، فإن الربط آنف الذكر حجب الهوية الوطنية، والولاء للدولة أصبح أقلّ أهميّة من الولاء لآل سعود؛ ومن الصحيح أيضاً أن الموقف من الدولة، سلباً أو إيجاباً، يتأثّر كثيراً بالموقف منهم، بمعنى أن الفاصل من حيث الأهمية بين (الدولة) و(الحكومة) مائع للغاية، رغم ما تعارف عليه الخطاب الشعبي من أن الحكومة تعني (العائلة المالكة). هناك مشكلة حقيقية أن تكون (الوطنية السعودية) "هوية حتمية التوقّع على أساس الولاء لسلالة معيّنة"، فـ (أنا سعودي) طالما وجدت هذه العائلة وطالما بقي ولائي لها. بهذا التحليل ووفق هذه الشروط يصحّ الزعم بأن العائلة المالكة "قادرة على تشكيل هويّة وطنية.. وأن الهويّة السعودية ليست بذلك الحدّ من التفرّع عن القومية العربية إن لم تكون ردّة فعل عليها"([58]).

ليس دقيقاً القول بأن الإسم يعني فقط "ذلك الجزء من الجزيرة العربية الذي يسيطر عليه القادة من آل سعود"([59]). إنه يذهب بعيداً، بالنسبة للنخب الحاكمة، الى حدّ اعتبار الولاء للدولة غير متخيّل بدون وجود العائلة المالكة، وأن الدولة ليست لها قابلية الإستمرار مستقلّة موحّدة بدونها. إنّها تستمدّ عنصر وجودها من آل سعود، فهم مؤسسوها، ولا يكفي بالتالي ولاءً مستقلاً لها ليمنع تفكّكها، ولا يكون الولاء لها ذا معنى ـ من وجهة النظر هذه ـ بدون الولاء لمؤسسيها. هذا الربط (العضوي) بين الطرفين يحوي قدراً غير قليل من الحقيقة، وهو مؤشّر حيّ على تعقيدات أزمة الهويّة الوطنية.

الثانية وتتعلّق بالمواطنة، وهي تشير الى كل من يولد على أرض المملكة من أب سعودي الجنسية، وتفرض المواطنة حقوقاً وواجبات متساوية، على الأقل من الناحية النظرية. والفارق بين المواطن Citizen والرعية Subject، تتصل بالحقوق القانونية وحجمها، هي في أدناها من جهة الحقوق: الحماية الشخصية، وأعلاها حق المشاركة السياسية. وبهذا التمييز يمكن القول أن كل المواطنين هم في حقيقة الأمر رعايا، فالذي لا يتمتع بحريته في التعبير والمشاركة السياسية هو رعية، يتحمّل واجبات لا تتناسب من حيث الحجم مع الحقوق. أمّا مبدأ السواسية، فمن الناحيتين النظرية والعملية يمكن القول وبدون تحفّظ إن السكان ليسوا متساوين في الواجبات والحقوق (فيما هو متوفّر منها طبعاً) فهناك تمييز على أُسس قبلية ومناطقية وعشائرية وطائفية، حتى داخل المركز نفسه. على هذه الأسس والمعايير غير الوطنية تقاس المواطنة وتقدّر (الحقوق) كما ذكرنا، وهي ترجع الى جذور ثقافية وسياسية بدأت مع قيام الدولة الى اليوم. ليس كل المواطنين يقبلون بالمساواة فيما بينهم على أرضية الإنتماء للدولة وحده، فهذا غير مقبول خاصة من قبل النخب الحاكمة، لأنه يؤدي حتماً الى تغيير تدريجي لـ "صفة الدولة السعودية ـ الوهابية"([60]).

هناك عمليّات تصفيّة/ نخل Filtration مستمرّة ومتعدّدة لمواطني الدرجة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، حسب المنطقة، وحسب مفتاح الهاتف!، وحسب المذهب. وداخل كل دائرة يأتي الأكثر ولاءً، فإذا تساوى الولاء، فالعشيرة والبلدة والقبيلة، في عملية لا تنتهي وتبعث على الإشمئزاز. إلا أن التصنيف العام يقول أن الأقرب الى المركز (منطقة، وولاء سياسياً ثم ولاءً دينياً) هو مواطن الدرجة الأولى؛ أحد الكتاب وصل الى نتيجة مرّة تفيد بأن النجديين يرون أنفسهم في الصف الأول، يليهم سنّة الخليج، ثم الحجازيين، ثم الهنود المسلمين، ثم الإيرانيين السنّة في الخليج، ثم الشيعة الذين يصنفون في أدنى السلّم الإجتماعي([61]). وجوهر المشكلة، أنه ما عدا النجديين، فإن سكان جميع المناطق شمالها وجنوبها وشرقها وغربها يرون أنهم يعاملون كمواطنين من درجة أدنى، وهذا الإعتقاد مؤشّر خطير له مساس بأسس الدولة ومستقبلها، وله صلة وثقى بمستقبل الهويّة الوطنية ودليلاً على ضعف التعلّق بها. هذا لا ينبغي أن ينسينا أن النجديين أنفسهم لا يعاملون أيضاً ضمن مرتبة واحدة، فهناك تمييز بين القبائل والبلدات والعوائل، الأمر الذي يجعل التفتّت عميقاً عمودياً كما هو أُفقياً. ولا بدّ أنه معلوم بالضرورة أن اختلال ميزان (المواطنة) يؤثّر في تفاصيل حياة الأفراد في تعليمهم وتوظيفهم ومشاعرهم، وينعكس على وضعهم القانوني وأمام القضاء، ونصيبهم من الخدمات العامّة كالصحة والإسكان وغيرها.

بقدر اختلال المواطنة، يكون اختلال الولاء السياسي ودرجة التعلّق بالدولة والحكومة، خاصة في الدول الريعية حيث الولاء بقدر العطاء، أو بقدر ما يستقطع من الدولة من منافع([62]). ويجب التفريق دائماً بين (الولاء Loyalty) والخضوع (Subjection, Subjugation) فالولاء الحقيقي ليس صفقة اقتصادية تحسب فيه الأرباح والخسائر، إذ ثبت في كثير من مفاصل التاريخ القديم والحديث، أن الأكثر انتفاعاً ينقلبون حين تلمّ الضائقة بالدولة ونظام الحكم فيها، وفي الغالب يجدّدون ولاءاتهم حسبما تقودهم منافعهم. والخضوع في الطرف الآخر، لا ينتج ولاءً ولا محبّة، وإنما سلبيّة وانزواءً وصمتاً مؤقّتاً([63])؛ إنه ليس بديلاً مضموناً للولاء، فالتقلبات السياسية كفيلة بإتاحة الفرصة للإنتقام، وتفعيل الغضب الداخلي الى عمل ثأري. ولعلّ بين النخبة الحاكمة من يكتفي بإخضاع المواطنين وسلبيتهم، ولا يقدّر قيمة وأهميّة الولاء والحب للدولة أو الحكومة، وقد يفسّر خطأً ذلك الصمت وتلك السلبية وغياب الإضطراب الإجتماعي السياسي العنيف على أنّه مؤشر قبول وتسليم والى حدّ ما ولاءً من نوع ما. حقاً، فإن سلطان القوة قاهر ـ وهو لا يحتاج الى شرعية ـ ولكن ليس للأبد، فالقبائل قد تكون مهيضة الجناح، والمناطق تمور تحت الرماد بمشاعر مختلطة من الخوف والتحدّي، ولكن إلى متى يبقى السيف مرفوعاً، وأي استقرار منشود لدى الحاكم كما المحكوم والخوف المتبادل ضارب أطنابه، وأي حلّ ممكن غير التهديد بالجيش والحرس والحرق لمنع البلاد من الإنزلاق نحو التفكك؟

هناك ظاهرة غير عادية في المملكة، وهي أن معظم السكان يشعرون بأنهم مضطهدون على أسس غير وطنية، أي بسبب انتماءاتهم القبلية والمناطقية والدينية. وإزاء هذا الشعور المتعاظم، لا بدّ أن الأمور قد تخطّت الأطر الوطنية بمراحل، وأن درجة الخطر تعدّت هي الأخرى الخطوط الحمراء. في الشمال هناك مطالب صريحة بالإنفصال يروّج لها عبر المنشورات المعارضة، يعمّقها الشعور بالغبن والإهمال الحكومي، والحجازيون لم يعودوا يخفون تشبّثهم بهويّتهم الخاصة وتلوّح النخب فيه بعدم قدرتها على التعايش مع النجديين والعقلية النجديّة وأنه آن الأوان لتفكيك الدولة. أقلّ من هذا ظهر في الجنوب ولدى الشيعة في المنطقة الشرقية فالأنفصال ينظر اليه كأحد الخيارات الممكنة أو المفيدة؟ ولأن كلّ باحث يرى الأمور من زاوية معيّنة، تجد انعكاساً للشعور بالإضطهاد في مختلف المصادر التي كتبت عن المملكة. فأحدهم يرى أن عسير هي الأكثر كثافة سكانياً وهي "أكثر المناطق تهميشاً من الناحية السياسية"([64]). آخرون عدّوا الشيعة "كعب أخيل المملكة السعودية"([65])، و "أقلية متمرّدة مهمّشة"([66]) يجري التمييز ضدّها رسمياً مما قادها الى الإحباط وتقبّل الأيديولوجية الأصولية واليسارية الراديكالية، كما قادت نزعة التطرف عدداً من الشيعة للإنجذاب الى القومية العربية المعادية للغرب أملاً في المساواة السياسية والإجتماعية([67]). والمسألة من وجهة نظر أخرى نسبيّة، ففي حين كان الحجازيون محظوظون نسبياً حين احتلّ السعوديون مناطقهم، بسبب استقطاب الحجاز لأنظار العالم الإسلامي، كان الأحسائيون "سيئي الحظ، فمن يعرف بمعاناتهم في الخارج يعدّون على الأصابع"([68]). والقبائل هي الأخرى كما المناطق تعيد انتاج تاريخها ورجالها كتباً ومنشورات ومقالات، وأهم القبائل هي تلك التي يتوافر لديها تاريخ سياسي حي ومكتوب، كالخوالد وآل الرشيد (شمّر) التي يظهر قادة هذه الأخيرة من المنفى إشارات حول التمييز ضدّ أفرادها، وضدّ سكان حائل تحديداً([69]).

الى أيّ حدّ هذه الهويّات عميقة وقادرة على تدمير بنية الدولة؟ لماذا لم ينجح التحديث في قتلها أو إضعافها، أو البناء عليها هوية وطنية جامعة؟ وما هي الخلفية الثقافية والسياسية والدينية وراء إعادة الحياة للهويات الفرعية، وما هي الأشكال التي تتخذها؟ هل لهذا علاقة بتراجع الدولة الريعية وضعفها عن الدفع، أم بشعور الأقليّة القاطن في أعماق كل المناطق والجماعات حاكمة ومحكومة؟ وأين موقع النخب المتعلّمة من هذا كلّه؟ كيف تنظر هذه النخب الى المسألة الوطنية؟ هل هي حقاً نخب وطنية أم طائفية، وما هو دورها في إشعال فتيل الهويّات الحالي ولماذا؟ كيف يرى الأفراد بعضهم بعضاً والمناطق بعضها بعضاً، ما هي المشاعر التي تحكمهم، بمعنى ما هي صورة الآخر في المخيال المناطقي الديني الجمعي؟ أسئلة تحتاج الى مساحات واسعة من الكتابة، نتمنى أن نجد من يتناولها بالإستقصاء والبحث والكتابة.

هوامش

 


 

[1] Christine Moss Helms, The Cohesion of Saudi Arabia: Evolution of Political identity, (London 1981), p. 70.

يدافع جلال كشك عن سياسة التكفير بالقول انه لولاه "أكان يقوم جيش الإخوان أو تتحرر وتقوم مملكة ابن سعود"؟ ونقل نصّاً للملك عبد العزيز يوضح ما اعتبره ظاهرة شدّة الوهابيين على المسلمين وتسامحه مع المسيحيين يقول فيه لفيلبي "إذا قدّمت أنت الإنجليزي ابنتك لي كزوجة، سأتزوجها… ولكني لا أتزوج ابنة الشريف، ولا بنات أهل مكّة ولا غيرهم من المسلمين الذين نعتبرهم مشركين. آكل اللحم الذي ذبحه المسيحيون دون تردد، ولكن المشرك الذي يعبد مع الله إلهاً آخر فهذا هو ما نبغضه".. انظر السعوديون والحل الإسلامي، أميركا 1982، ص 607، 608)

[2] H B. Sharabi, Government and Politics of the Middle East in the Twentieth Century (London 1962), p. 225.

[3]  [3] Bassam Tibi, 'The Simultaneity of the Unsimultaneous: Old Tribes and Imposed Nation-States in the Modern Middle East', in eds., Philip S. Khoury & Joseph Kostiner, Tribes and State Formation in the Middle East (London, 1991), p. 132.

[4] Max Weber, 'The Nation', in eds., John Hutchinson & Anthony D. Smith, Nationalism, (Oxford 1994), p. 25.

[5] Joseph Stalin, 'The Nation', in eds., John Hutchinson & Anthony D. Smith, op. cit., p. 20.

[6]  Anthony H. Birch, Nationalism and National Integration, (London 1989), p. 6.

[7] Helen Lackner, A House Built on Sand: a political economy of Saudi Arabia (London, 1978), p. 106.

[8]  Fatina Amin Shaker, Modernization of the Developing Nations: The Case of Saudi Arabia, Purdue University (USA), PhD., 1972, p. 190.

[9] Helen Lackner, op.cit, p. 106.

[10] Manfred W. Wenner, 'Saudi Arabia: Survival of Traditional Elites', in ed., Frank Tachau, Political Elites and Political Development (Cambridge, 1975), p.162.

[11] James Piscatori, 'The Formation of the Saudi Identity: A Case Study of the Utility of Transnationalism', in ed., John F. Stack jr, Ethnic Identities in A Transnational World (U.S.A, 1981), pp. 105, 118.

[12] يقول جهيمان العتيبي في رسالة "بيان الشرك وخطره": "لماذا لا يكفر اليوم من يدعو علياً وفاطمة رضي الله عنهما، وكذلك من يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم من دون الله؟ .. ولماذا تُرك العمل بقوله تعالى: {إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} بل نرى المشركين الشيعة وأمثالهم يملؤون مكة والمدينة ويجاهرون بشركهم؟! ثم نتساءل: هل وجد في دين الإسلام من يأخذ الزكاة من الروافض، ويعطيهم الإعانات، ويعتبرهم من رعاياه، كما يعامل اليوم رافضة الجنوب ـ جنوب المملكة ـ والأحساء"..)

[13]  Michel G. Nehm. 'Saudi Arabia 1950-1980: Between nationalism and Religion', Middle Eastern Studies, Vol. 30, No. 4, 1994, p. 938.

[14] Robert W. Stookey (ed.), The Arabian Peninsula, (Stanford, California, 1984), p. viii.

[15] Madawi Al-Rasheed and Loulouwa Al-Rasheed, 'The Politics of Encapsulation: Saudi Policy Towards Tribal and Religious Opposition', Middle Eastern Studies, Vol. 32, No. 1, 1996, p. 109.

[16] Abdullah Saleh Al-Banyan, Saudi Students in the United States, A Study of Cross Cultural Education and Attitude Change, (London 1980), p. 31.

[17] James Piscatori, op.cit., p. 105.

[18] Christine Moss Helms, op.cit., p.78.

[19] James Piscatori, op.cit., p. 133.

[20] J. Joseph Nevo, 'Religion and National Identity in Saudi Arabia', Middle Eastern Studies, Vol. 34, No. 3, 1998, p. 34.

[21] George A. Lipsky, Saudi Arabia, Its People, Its Society, Its Culture (New Haven, USA, 1959), p. 311.

[22] Area Handbook for Saudi Arabia, (The American University, Washington, 1971), p.201.

[23] Joseph J. Malone, 'Saudi Arabia', The Muslim World, No. 56, 1966, pp. 294-295).

[24] Manfred W. Wenner, op.cit., pp. 165-166.

[25] Helen Lackner, op.cit, p. 106.

[26] James Piscatori, op.cit., p. 118.

[27] ترى فاتنة أمين شاكر في رسالتها للدكتوراة، أن حكم السعوديين "اعتبر حكماً أجنبياً من وجهة نظر الحجازيين" ترى الى أي حدّ يصدق هذا الشعور اليوم في مناطق المملكة المختلفة؟ أنظر:

Fatina Amin Shaker, op.cit, p. 125.

[28] هناك من يرى أن "العائلة المالكة لم تحاول أن تلغي هذه الهويات [الفرعية] وإنما حاولت خلق ولاء أعلى على أرضية إجتماعية مشتركة ومجتمع ديني مشترك" انظر:

Eleanor A. Doumato, 'Gender, Monarchy, and National Identity in Saudi Arabia', British Journal of Middle Eastern Studies, vol. 19, No. 1, 1992. p. 36.

[29] تصريح للأمير سلطان بن عبد العزيز، وزير الدفاع والطيران، أثناء زيارته للقصيم في يوليو 1996. الجدير ذكره، أن القصيم تقع وسط نجد، وهي لا تمثل كلّ نجد، بل هي واحدة من ثلاث مجموعات: شمال نجد وتمثله حائل، وجنوب نجد وتمثله الرياض وما يقع جنوبها.

[30] Ghassan Salamé, op.cit., p. 80

[31] Ghassan Salamé, op.cit., p. 80

[32] هامش: ليس فقط الشيعة الذين "يرفضون كلياً القيادة الوهابية الدينية، وبدورهم لا يُعاملون كمسلمين صالحين من قبل الحكام" ولكن "حتى الحجازيين السنة ينظرون الى الوهابيين كمتعصبي صحراء أكثر من ممثلين حقيقيين للإسلام". انظر:

 George A. Lipsky, op.cit., p. 309.

من المدهش أن هناك مجموعات سلفية صغيرة في الحجاز لا يشاركون الوهابيين فهمهم للدين ولا يعترفون بعلماء نجد. انظر:

Joseph Kostiner, 'State, Islam and oppsition in Saudi Arabia: The post-Desert Storm Phase', in eds., Bruce Maddy Weitzman and Efraim Inbar, Religion Radicalism in the Greater Middle East (Portland, Oregon, 1997), p. 84.

[33] انظر مذكرة ناصر العمر: (واقع الرافضة في بلاد التوحيد) وهو حين يقدم مقترحاته في نهاية المذكرة لا يقصد الشيعة فحسب بل جميع مناطق المملكة التي لم تصبح بعد مسلمة بما فيها الكفاية، تجد المذكرة في:

http://www.alsunnah.com/rafidah/1.htm

[34] هناك من يرى أن "الأصولية الوهابية وفرت نموذجاً في التعبير العربي الإسلامي في تأكيد الهوية" الدينية؟ انظر:

 Lucien S. Vandenbroucke, 'Why Allah's Zealots? A Study of the Causes of Islamic Fundamentalism in Egypt and Saudi Arabia', Middle East Journal, Vol. xvi, No. 1, 1983, p .36.

[35] Manfred W. Wenner, op.cit., p. 162.

[36] Area Handbook for Saudi Arabia, (The American University, Washington), p. 201.

[37] Ibid., p. 202.

[38] Ibid., p. 202.

[39] J. Nevo, op.cit., 37.

[40] Ibid., P. 38.

[41] Ghassan Salamé, op.cit., p. 81.

[42] Daniel E. Price, Islamic Political Culture, Democracy and Human Rights (London, 1999), p. 97.

[43] J. Nevo, op.cit., 37.

[44] Ibid., p. 46.

[45] Manfred W. Wenner, op.cit., p.182.

[46] J. Nevo, op.cit., 46.

[47] Mordechai Abir, Saudi Arabia in the Oil Era, Regime and Elite; Conflict and Collaboration (London, 1988), p. 6.

[48] D. Price, op.cit., p. 182.

[49] M. Abir, op.cit., pp. 91-92.

[50] J. Nevo, op.cit., p.41.

[51] M. Abir, op.cit., p. 91.

[52] Ibid., p. 114. Also D. Price, op.cit., p. 100.

[53] M. Abir, op.cit., p. 119.

[54] Joseph Kostiner, 'Transforming Dualities: Tribe and State Formation in Saudi Arabia', in eds., Philip S. Khoury and Joseph Kostiner, Tribe and State Formation in the Middle East (Berkeley, USA, 1990) p. 232.

[55] Anders Jerichow, Saudi Arabia Outside Global Law and Order (Surrey, 1997) p. 2.

[56] James Piscatori, op.cit., p. 123.

[57] James Piscatori, op.cit., p. 138.

[58] Ibid., pp. 133-134.

[59] George A. Lipsky, op.cit., p. 308.

[60] M. Abir, op.cit., p. 114.

[61] مايكل فيلد، التجار (لندن 1986)، ص 63، 69. وانظر أيضاً:

George A. Lipsky, op.cit., p. 63.

[62] يرى حازم ببلاوي، ان المواطنة في الدولة الريعية تصبح مصدراً مالياً. انظر:

Hazem Beblawi, 'The Rentier State in the Arab World', in ed., G. Luciani, The Arab State (London, 1990) p. 89.

[63] ترى مضاوي ولؤلؤة الرشيد أن "العنف الجسدي المنظّم لمدّة طويلة من الزمن ساهم في عزل مجتمع الشيعة في المملكة وفي عملية حصرهم في الغيتو الخاص بهم".. انظر:

Madawi Al-Rasheed and Loulouwa Al-Rasheed, op. cit., p. 109

[64] Kiren Aziz Chaudhry, The Price of Wealth, Economies and Institutions in the Middle East, (USA 1997), p. 48.

[65] Rosemarie Said Zahlan, The Making of the Modern Gulf States, (London 1989), p. 131.

[66] Robert W. Stookey, op.cit., p. xviii.

[67] M. Abir, op.cit., pp. 40, 50, 72.

[68] J. B. Kelly, Arabia, The Gulf and the West, (London 1980), pp. 237-238.

[69] Joseph Kostiner, op.cit., p. 239.