علاقة الاسلاميين بالسلطة في الوطن العربي

 الاحزاب الشيعية المستقلة عن ولاية الفقيه

 

د. فؤاد إبراهيم
Email: fouad@saudiaffairs.net

كان وقف اطلاق النار على الحدود العراقية الايرانية في الثامن من أغسطس 1988 لحظة انبلاج مشهد جديد يعبّر عن بدء تحول جوهري في المشهد السياسي في المنطقة، لحظنا إنعكاساته في الخطاب السياسي الايراني، وبخاصة بعد رحيل السيد الخميني عام 1989، كما في الخطاب السياسي لعدد من الاحزاب الشيعية العربية. لقد تراجع المثال أمام صرير الواقع، وحلّ الوطن مكان الأمة، وأخذ الجميع يتخلَّص من عتاده الايديولوجي، ليفتح أفق العمل السياسي على أدوات جديدة، فلم يعد شعار (الثورة في كل مكان) بأداة جماهيرية صالحاً للاستعمال في مرحلة (الاصلاح) بأدوات سياسية سلمية. هكذا تبدو صورة التحوّل الداخلي بالنسبة لعدد من التنظيمات السياسية الشيعية في الخليج التي ارتبطت ردحاً من الزمن بإطروحة ولاية الفقيه.

في قراءة أداء الاسلاميين الشيعة على المستوى الخليجي، تتصدر الحركة الاصلاحية الشيعية في السعودية المشهد. فقد ظلت الحركة لما يربو عن عقد من نشأتها عام 1979 على علاقة عضوية بحركة الرساليين الطلائع تحت قيادة السيد محمد تقي المدرسي (المرجع حالياً في كربلاء) ومرجعية السيد محمد مهدي الشيرازي. ولكن الحركة الاصلاحية بدّلت وجهتها السياسية والايديولوجية عام 1989، بعد أن كانت تسمّى بـ (منظمة الثورة الاسلامية)، وقد إكتسبت زخمها التنظيمي والسياسي من إرتباطها الديني بمرجعية السيد محمد مهدي الشيرازي، أحد أبرز المؤسيين لاطروحة ولاية الفقيه المطلقة، جنباً الى جنب السيد الخميني.

وكانت الحركة الاصلاحية قد شرعت بهدوء في تجهيزات استقلال قرارها التنظيمي والسياسي منذ عام 1989، وعقدت أولى جلساتها لاعادة هيكلة الحركة بإنتخاب قيادة ومجلس للشورى تمهيداً لخوض نشاط سياسي علني بأجندة وطنية، إيذاناً بالانتقال من الاممي الى الوطني. وجاءت المصالحة بين الحركة الاصلاحية والحكومة السعودية في أغسطس عام 1993 كتتويج عملي لاستقلال الحركة عن مرجعية الحركة الأم وولاية الفقيه ـ الشيرازي. وبالرغم من موجة التشكيك المتقطّعة التي رافقت مسيرة المصالحة حول مشروعية القرار الحركي وغياب دور ولاية الفقيه ـ المرجع الشيرازي، الا أن الحركة الاصلاحية نجحت في إحتواء تلك الموجة، وبدأت تؤسِّس لبناء سياسي إجتماعي جديد متحرر من تركة الماضي، وفي الوقت ذاته يؤسس لروابط داخلية مرنة مع المجتمع والسلطة، وبوحي أيديولوجي براغماتي متصالح مع المعطيات السياسية والاجتماعية القائمة.

ترشد أدبيات الحركة الاصلاحية، منذ قرارها بالانفصال عن مشروعها الحركي الاممي واعتناق برنامج إصلاحي سلمي وطني قبل وبعد العودة الى ديارها، الى إنعتاقها من أناقة الايديولوجية الثورية المثالية، مستعينة بحفنة من الافكار الديمقراطية المعالجة دينياً لتسويغ وجودها وحركتها السياسية على التربة التي عادت اليها. 

لقد اختارت الحركة الاصلاحية الشيعية أرضها وطناً نهائياً والدولة إطاراً سيادياً يجب الانضواء تحته والاقرار بكامل حمولته ولا مناص من التوسل بأدواته في الاصلاح، مع تحقيق أكبر قدر ممكن من الشراكة والتنسيق مع القوى الوطنية والدينية في عملية الاصلاح، يبدو ذلك في المشاركة الفاعلة واللافتة لقياديين سابقين في الحركة الاصلاحية ضمن حملة العرائض التي رفعت للملك عبد الله منذ كان ولي العهد بدءا من (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) في ديسمبر 2002، والعريضة الشيعية (شركاء في الوطن) في أبريل عام 2003 والتي تمحوّرت حول مبدأ المساواة الكاملة في المواطنة، وقد شارك فيها عدد كبير من أعضاء بارزين في الحركة الاصلاحية، حيث شدّد الموقعون على انتمائهم الوطني، واعتبروا المملكة (وطنهم النهائي لا بديل لهم عنه، ولا ولاء لهم لغيره) بحسب نص العريضة، واخيراً المشاركة في وثيقة (الاصلاح الدستوري أولاً) في ديسمبر 2003.

في تجربة الحركة الاصلاحية الشيعية منذ عودة أفرادها وحتى الوقت الراهن، بالرغم من حل الحركة بصورة رسمية وعملية، ما يلفت الى توافق داخلي بين الشيعة على الخيار التصالحي الوطني الذي انتهجته الحركة الشيعية منذ البداية، مع تحفّظات على طريقة أداء السياسيين الشيعة، وهي، للتذكير، غير متصلة بمشروعية العلاقة مع السلطة بقدر إرتباطها بمنهجية التعاطي السياسي الداخلي وأدواته.

ويجدر تسجيل نقطة تفوّق لصالح الحركة الاصلاحية الشيعية في السعودية ظهرت في كف يد المرجعية عن تقرير مسار العلاقة مع السلطة، وربما يعود ذلك في بعض أوجهه الى التموقعات المرجعية الجديدة التي عطّلت فرص النفوذ المرجعي، وكان رحيل المرجع السيد محمد الشيرازي في يناير 2002 الخيط الاخير الذي انقطع بين الحركة الاصلاحية مع راعيها الروحي، حيث قررت قيادات الحركة الانضواء تحت مرجعية السيستاني، بنزعتها التصالحية النابعة من إعتناقه مبدأ الولاية الجزئية للفقيه على القصّر والايتام والاوقاف.. لا ريب أن رحيل الروّاد الكبار لولاية الفقيه المطلقة قد خفف الى حد كبير وطأة الاطروحة التي خسرت قسطاً من حمولتها وألقها النظري وقسطاً آخر من رصيدها الشعبي، وحرر السياسي الشيعي من عبء السؤال القديم حول مشروعية العمل السياسي خارج عباءة الفقيه ـ الولي ـ المرجع.

في تجربة الاسلاميين الشيعة في البحرين ما يتضمن لفتات بالغة الاهمية، فبالرغم من التباينات الشكلية بين حركة أحرار البحرين بمرجعيتها الايرانية الدينية والسياسية، والجبهة الاسلامية لتحرير البحرين (المرتبطة بمرجعية الشيرازي سابقاً والمدرسي لاحقاً) والازياء السياسية التي إرتدتها ضمن شروط المعادلة البحرانية، حيث تسمّت حركة أحرار البحرين بجمعية الوفاق الوطني الاسلامية، والجبهة الاسلامية لتحرير البحرين بجمعية العمل الاسلامي، وإشتقاقاتهما اللاحقة، الاّ أنها تنطلق، في الغالب، من خط الاعتراف بكيانية الدولة القائمة. وباستثناء رأي نافر يجنح الى تبني فكرة الاطاحة السياسية بالنظام، يدخل أغلب الاسلاميين الشيعة البحارنة الى حلبة التجاذبات من منظور وطني محض، وتحت سقف العمل المطلبي المحلي. فأجندات المطالب السياسية لدى الجمعيات الشيعية تبحرنت منذ تباطأت آلة القمع في العلاقة بين السلطة والمجتمع، ودخلت البحرين في عهد الملك الشيخ حمد بن عيسى مرحلة تجاذب إصلاحي منذ عام 2001 أدّت الى عودة كثير من المعارضين السياسيين الشيعة الى البحرين، إيذاناً ببدء حياة سياسية جديدة وبأدوات مختلفة.

لم تواجه الناشطين السياسيين الشيعة في البحرين إشكالية المشروعية الدينية في العلاقة مع السلطة، بالقدر الذي كانت تطرح في سنوات سابقة، لنفس الاسباب المذكورة في التجربة الشيعية في السعودية. فقد كان عنصر الوطني والشعبي أكثف حضوراً من عنصر الايديولوجي واليوتوبي، وقد ساعد وجود الجمعيات السياسية الشيعية على تربتها الاصلية في تنمية تطلعات كانت لوقت بعيد مضمرة بفعل سطوة الافكار المثالية المرتبطة بوجودها خارج الحدود.   

يلزم التذكير هنا، أن الاداء السياسي للجماعات الشيعية المنفصلة عن مركبة ولاية الفقيه لم يكن منضبطاً في مستهل تحوّلها، نظراً لانهدام جسر الثقة بين هذه الجماعات والسلطة، وريثما تتهيئ بيئة إطمئنان تسمح بحدود مقبولة للعمل السياسي، ولربما كانت السلطة بحاجة للوثوق بأداء الاسلاميين الشيعة سواء العائدين حديثاً الى البحرين أو الذين قرروا خوض العمل السياسي المطلبي بوسائل سلمية والتزامهم المسموح به محلياً، والقبول بالدولة كسقف سيادي نهائي لا يجوز هتكه أو المقايضة به.

وقد بدا واضحاً من أداء الجماعات السياسية الشيعية في الخليج عموماً أن الافتتان الايديولوجي الطوباوي، كمفعول سياسي نشط خلال عقد الثمانينيات، شقَّ درباً نحو التصادم مع الافكار الوطنية، الأمر الذي فرض على هذه الجماعات، بعد تغيير مسارها السياسي نحو تلك الافكار، تقديم شهادات براءة في الوطنية والولاء لتربة المنشأ وتالياً للسلطة القائمة عليها. وفي حقيقة الأمر، أن مناخ ما بعد الحرب العراقية الايرانية وتنامي الميول الاصلاحية لدى الحركات الشيعية، ورحيل روّاد أطروحة ولاية الفقيه شكّلت حوافز تأهيلية لجهة تنضيج تحوّل فكري وسياسي جوهري داخل الجماعات السياسية الشيعية، التي كان انتقالها الى مرحلة المصالحة مع السلطة سلساً بل ونموذجياً. لحظنا ذلك بالنسبة للحركات السياسية الشيعية الكبرى في الخليج مثل الحركة الاصلاحية في السعودية وحركة أحرار البحرين، ممثلة في جمعية الوفاق الوطني الاسلامي، والى حد ما الجبهة الاسلامية لتحرير البحرين ممثلة في جمعية العمل الاسلامي. ولا ريب أن السياسيين الشيعة في الكويت كانوا الارقى في أدائهم السياسي، فحتى أولئك الذين ناصروا، نظرياً، إطروحة ولاية الفقيه، كان الوطن ـ الكويت الاطار السيادي والكينوني النهائي الذي حكم إنشغالاتهم السياسية، لا فرق بين تيار سياسي شيعي وآخر. يبقى أن تشكيلات شيعية أخرى مثل حزب الله الحجاز في السعودية، وجناح من حركة أحرار البحرين، وقسم من الجبهة الاسلامية لتحرير البحرين وإن وجّهت انتقادات لجماعات سياسية شيعية تعاطت مع السلطة من منظور وطني وديني مختلف، الا أن تلك التشكيلات حسمت قرارها النهائي في إعتبار أوطانها مجالات سيادية غير قابلة للمساومة، وإن ظلّت نزعة المثلنة (idealization) ثاوية في اللاوعي السياسي لبعض أطرافها الفاعلة، شأنها شأن جماعات سلفية محقونة برؤية مانوية ترى في تشطير العالم الى معسكرين، يلتحمان في صراع تاريخي يسفر ضمن الترسيمة السكاتولوجية الى انتصار حتمي للمعسكر الحق، مع فارق أن تقهقراً متواصلاً شهدته المقولات المثالية في الفضاء الثقافي والسياسي الشيعي، في مقابل تفجر مقولات مماثلة في فضاءات اخرى، كالتي تناضل الجماعة السلفية المسلّحة على تجسيدها.

وفي سياق التفارق بين الاسلاميين الشيعة بنزوعهم الوطني والاسلاميين الشيعة المناصرين لولاية الفقيه في العلاقة مع السلطة، قد تبزغ الاشكالية التقليدية حول الاقرب والأبعد عن خط الوطن، على أساس استبطانات افتراضية لولاية الفقيه تلمح الى صدام ولاءات ـ الديني والوطني، أو ارتهانات سياسية تختزن شحنة فزع من مبيّتات متخيّلة تنطوي عليها سريرة جماعة مناصرة لولاية الفقيه. للتذكير فحسب، لايمدّنا مجرد تعاطف الشيعة مع قضايا ذات طابع شيعي خارج أوطانهم بأكثر من دالٍ على عاطفة دينية مألوفة، دون إغفال، بالطبع، تردداتها السياسية على جغرافيات شيعية هنا وهناك.

لا نبتغي هنا تقديم إجابة تطمينية أو حتى تبريرية، وفي الوقت نفسه لن نصل الى حد الاستماتة في الدفاع عن قضية قد تكون ذيولها ممتدة في أجزاء وإن مهملة في الفضاء الشيعي. قد يكون التجسيد السياسي الأبرز لاطروحة ولاية الفقيه هي في لبنان بدرجة أساسية، وإن بتنا ندرك الآن بأن ولاية الفقيه قد تلبننت ولم تعد محتفظة بشهادة منشأها الاصلي. وأما في العراق، وبالرغم من النفوذ الايراني الواسع، فإن كل شيء قابل للامتصاص عراقياً  ماعدا نظرية ولاية الفقيه. تلفت، بالطبع، حزمة الضوء الكثيفة التي اجتذبتها مرجعية السيد السيستاني في العراق على حساب ولاية الفقيه بنسختها الايرانية التي أخفقت في مسرحة مكوّناتها على  ساحة شديدة التعقيد في تنوّعها الاثني والقومي والمذهبي وأيضاً الايديولوجي والسياسي. فالسيستاني مثّل عاضداً رئيسياً لمشروع دولة وطنية عراقية تحتضن كافة الاطياف الاجتماعية والسياسية، وهو تعضيد بدلالات غير مغفولة على الفضاء الثقافي والسياسي الاسلامي والعربي.

بالنسبة لشيعة الخليج، يتحرك الاسلاميون الشيعة بقدر كبير من الثقة والرصانة السياسية غير المحفوفة بارتيابات ايديولوجية أو سياسية داخلية كانت أم خارجية، فهم يخوضون اللعبة السياسية بأصولها المحلية وضمن شروط وبيئة التحوّل الداخلي أسوة بنظرائهم السنة والاحزاب الوطنية والليبرالية، بل نلحظ تبدّداً لتابوات سياسية ودينية في حركة الاسلاميين الشيعة في السعودية كما في البحرين والكويت.

ويبدو واضحاً في ضوء التجارب السياسية الحزبية في المجتمع الشيعي عموماً، أن ثمة نزوعاً متنامياً لجهة تخفيض هيمنة المرجعية على النشاط السياسي، وحصر دورها في المجال الروحي الاشرافي الى جانب دورها الحوزوي التقليدي. ويذهب بعض الناشطين الشيعة الى فصل العمل الحزبي السياسي عن تأثيرات رجل الدين بوصفه امتداداً للمرجعية بما يحول دون الوصول الى نقطة تصادم، والاشتغال على تأسيس علاقة متوازنة لا ترهن العمل السياسي لقرار مرجعي، وبخاصة بالنسبة لمرجعيات ممتدة. وتشترك التجارب الحزبية الشيعية سواء في العراق أو لبنان أو السعودية وربما دول خليجية أخرى في نتيجة عملية أن ولاية الفقيه كأطروحة دينية وسياسية غير متسامحة مع التنوع الداخلي في تلك البلدان، الى جانب كونها وصفة قاصرة عن التطبيق، لتعارضها مع خصوصيات المكان والمجتمع في كل بلد.

وبعد مرور أكثر من عقد على التجربة السياسية الشيعية في السعودية، وخمس سنوات على التجربة البحرينية، فإن ثمة أجواء جديدة خلقتها عملية التجاذب السلمي الداخلي وفق شروط محلية محضة، بل أمكن القول بأن اندماج الجماعات السياسية الشيعية في النسيج الوطني قد يفضي لاحقاً، أي مع البدء في بناء مشروع الدولة الوطنية بكافة مستلزماتها، الى زوال الحائل المذهبي. 

 

 

 

 

* مقالة بحثية منشورة على شبكة الجزيرة نت أنظر الرابط

 

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/BAFAB42B-1B97-4BF3-AEEB-D71317956000.htm?NRMODE=published&wbc_purpose=Basic