صناعة البيئة الثقافية للخوف *

 

د. فؤاد إبراهيم
Email: fouad@saudiaffairs.net

  ما هي ثقافة الخوف، وكيف غدت موضوع بحث من قبل طيف واسع من علماء الانثروبولوجيا والسيسيولوجيا والسياسة؟ إننا، دون ريب، نقع في خضم ظاهرة ملتهبة ترتطم بمجمل حركتنا اليومية وانشغالاتنا الذهنية والنفسية. وإذ لا يمكن أن نفسّر هذه الظاهرة ما لم نعتقد جزماً بوجودها، ولكي نمتلك  فكرة عامة عنها لابد من تعريف مكوّناتها، فإن أول سؤال يدهمنا هو كيف يتحول الخوف الى ثقافة؟

الثقافة، بحسب تعريف ادوار برينت تيلور عام 1871 في كتابه (الثقافة البدائية)، هي (مجموعة معقّدة تشمل المفاهيم والمعارف والمعتقدات والفنون والقوانين والاخلاق والاعراف وجميع القدرات الاخرى والعادات التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع)[1]. فالثقافة، كما يرى فرويد، ذات طبيعة شمولية تنصبُّ في الانسان بكامله[2]. وهذا يلفت الى أن ليس هناك ثقافة فردية يمكن إنتاجها خارج فضاء المجتمع، فالانسان هو "حيوان اجتماعي" بحسب ارسطو.

أما الخوف فهو أداة يستشعر الفرد عبرها بالمعاناة في القلب، ويستدمجها في نفسه، ويستوعبها. إنه، بكلمات أخرى، قناة الطاقة التي تسلك المعاناة عبرها الطريق الى القلب البشري. يبقى، أن تأثيرها لايقع ظرفياً، ولكنها متراكمة  في الخاصيّة، فهي لا تتم لمرة أو دفعة واحدة ولكنها تتكشف بصورة ثابتة، كما يذهب الى ذلك ثيودور أدورنو.

ثقافة الخوف مصطلح مقترح في العديد من الطروحات السيسيولوجية التي تجادل بأن مشاعر الخوف والقلق تهيمن في الخطاب والعلاقات العامة المعاصرة، وتتغير بحسب علاقة أحدهما بالآخر كأفراد وكجماعات إجتماعية. وبالرغم من أن كل هذه الطروحات تقدّم حسابات مختلفة لمصادر وتداعيات الاتجاه الذي يرومون التوسل به لوصف وتحليل هذه الحالة، فإن جميع هذه الطروحات تتقاسم المطلب الجوهري وهو أن ثقافة الخوف تعدُّ، الى حد ما، ظاهرة جديدة بدلالات شديدة الاهمية والخطورة. بيد أن ما يلزم التشديد عليه، أن الخوف كحالة عاطفية وأنتولوجية غريزية أصبح رفيقاً حاضراً بسطوة في حياتنا اليومية. وكما يقول الشاعر نزار قباني:

ليس جديداً خوفنا

فالخوف كان دائماً صديقنا

من يوم كنا نطفة

فى داخل الأرحام

فقد باتت الارض التي نقيم عليها كوكب الخوف الملتهب بظواهر مثيرة للفزع، بعد أن أخذت أشكالاً إجتماعية وسياسية معقدة تتمظهر، على سبيل الامثلة، في مجتمع المخدّرات، ومجتمع المباحث والمخابرات، ومجتمع لوردات الحرب وباعة أسلحة الدمار الشامل.. فثمة تجسيدات لعالم الخوف الذي يفرز أشكاله المنظّمة ويشيع ثقافته في مسامات البنى المجتمعية.

يحدد هيدغر السمة الخاصة للخوف في (تحديد ما يخاف أمامه وما يخاف من أجله)، فالإنسان الخائف والقلق يجد نفسه (مكبّلاً) بما يشعر بنفسه فيه وفي مسمّاه لينقذ نفسه أمام هذا ـ أمام (هذا) الشيء المتعين، حيث لا يشعر بالأمان أمام ماهو (آخر) أي إجمالاً يفقد صوابه[3].

هذا التصور للخوف، وهو موضوع دراسات علمية، نجده أحياناً مبهماً في منشأه وأصل وجوده، فليست مصادر الخوف واقعية أحياناً، وبحسب باري جلاسنر في (ثقافة الخوف) إننا نخاف من أشياء هي في الغالب غير ضارة، ولكن خطورة الخوف تكمن في ما ينجبه من تصورات متشائمة تمسك بخناق مواقفنا، بما تجعلنا في حالة عجز تام عن حل مشكلاتنا[4]..

 

خصائص ثقافة الخوف

1ـ أنها ذات طابع جماعي، فلا يقصد بها فرد ولا جماعة دون غيرها، بل هي بمثابة حزم الهواجس المتفشية في كل قلب ينبض وفي كل روح تخفق. فثقافة الخوف أخذت معنى جماعياً ولم تعد ذات طابع فردي، كما كانت النظرة الى مفهوم الثقافة حتى نهاية القرن الثامن عشر. تماماً كما لم يعد الخوف مجرد إحساس فردي مستقل يضطرم غريزياً لمواجهة أخطار مباشرة تتربص بالوجود البيولوجي للفرد، بل بات مندغماً في نسيج الوعي الجماعي للبشر، وتتجلى تمظهراته في أنماط العلاقة السائدة، ولغة التخاطب اليومية، ومنهجية التعامل بين مكوّنات المجتمع. فهنا تضمحل كينونة الفرد لتنصهر في الكيان المجتمعي الكبير الذي يقع تحت وطأة ماكينة ثقافة الخوف الطاحنة، يتعرض الافراد، خلال عملها، لمسخ شامل للهوية، والتفكير، والمشاعر والقيم الانسانية، ليكون الخوف وحده قبطان السفينة، والموت حارساً عليها، والمجتمع مجرد كتلة بشرية مخطوفة على متنها.  

فالفرد يعاد صياغته من خلال دمجه في المجتمع الخاضع تحت تأثير إشعاعات ثقافة الخوف، فلا يعود فرداً سوّياً مستقلاً بل هو جزء من مسخ جماعي، يكتسب خصائص المجتمع الممسوخ، يفكِّر كل فرد فيه، كما يلبس وينطق ويهجس، بطريقة واحدة، إنها أوركسترا الخوف التي تعزف لحناً موحداً لخدمة صانعيه.

في السياسة، يتولّد تواطىء عفوي بين المجتمع والسلطة السياسية على ممليات ثقافة الخوف، والتي تؤول مفضياتها الى تركين أسس الاستبداد بكافة أشكاله المفزعة.. ثقافة تتفشى في البيت، والشارع، ورياض الاطفال، والمدارس والجامعات، والجوامع، والمؤسسات التجارية والاعلامية، والأندية، وشبكات النخب الفكرية والصفوة الاجتماعية، وصولاً الى القيادة السياسية. فمطلوب من الجميع أن يمتثل لعبادة الخوف على طريقته، طالما أن العبادة ستكون خالصة لوجه السلطان المستبِّد، تحقيقاً لمقولة الناس على دين ملوكها.

وكما يقول نزار قبّاني:

هذا له زاوية يومية..

هذا له عمود..

والفارق الوحيد فيما بينهم..

طريقة الركوع..

والسجود..

2ـ أنها طغيانية، ويراد منها تحقيق درجة اكتساحية قصوى في التغلغل والتداول اللحظي، بحيث تستحوذ بصورة دائمة ومتصلة على مجمل الانشغال الذهني والمشهد العام للحياة.

ويتكىء نجاح الخوف ليس على القدرة في التعبير عنه فحسب، ولكن أيضاً على كيف يعبّر عن الهواجس الثقافية العميقة. مثال ذلك الحرب في العالم، فقد كانت ناجحة لأنها مدمغة في مخاوف الشعب سابقاً من النازية والحرب العالمية الثانية، وراهناً من الارهاب وبخاصة عقب حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

فقد بدا واضحاً وفي سياق إنفجار المخاطر، أن أوروبا عاشت في يناير 2001 تحت تأثير الهلع مما يعرف بحرب البلقان، فيما كان يعتقد قسم من شعوب أوروبا بوجود رابط ما بين ذخائر اليورانيوم المنضّب التي سقطت خلال القصف على يوغسلافيا وأنواع الأعراض المرضية التي عانت منها قوات الناتو العاملة في تلك المنطقة، بالرغم من أن الخطر لم يكن سوى نظرياً، فيما لا دليل مادي عليه، الا أنه إستعاد الصورة المرعبة للحرب النووية[5].

واذا كنا، فيما مضى، نجهل الكثير عن الكوارث الطبيعية والبشرية بفعل ضعف التواصل، فإن الثراء الاتصالي الذي حققه الانترنت والتلفزيون الفضائي ينقل اليناً معلومات عن دفعات هائلة من الجرائم الفردية والمنظمة وعمليات السطو والكوارث بكافة أشكالها بصورة لحظية.

إن إنتاج الخوف، عبر قنوات البث الاعلامي، يهيمن على مجمل فروع الصناعة، فقد أصبح الخوف مفتاحاً لتكنولوجيا السلطة. وفي الوقت نفسه، فإن سيرورة انتاج الخوف قد غيّرت مفهومنا إزاء الخطر وكذا طريقتنا في التعامل مع الخوف. وفيما يبدو بجلاء، فإن آلة الخوف في حالة إزدهار، فالجيل المتواصل من مصادر ومضامين الخوف قد منحها وضع السيرورة التاريخية، المشفوعة بطلب متحوّل لوسيلة فهم، وسيطرة ومحو للاخطار الجديدة.

يعتقد باري جلاسنر بأن أي تحليل لثقافة الخوف يتجاهل الاعلام الخبري يعتبر ناقصاً. إن تأثير وسائل الاعلام (التلفزيون الفضائي بدرجة أساسية) مازال ضارياً بحيث يجعلنا نشعر بأننا نعيش في عالم خطر للغاية، ويجب علينا حماية أنفسنا بالسلاح، وتكثيف الرقابة البوليسية والاعتقالات، والتي هي من شأنها إشعار الناس بعدم الامن، حين يرون كثافة تواجد رجال الامن والشرطة بزيهم العسكري في الشوارع العامة. ويوجّه جلاسنر أصابع الإتِّهام الى وسائل الاعلام الاميركية في تغذية ثقافة الخوف، والتي تسعى الى استقطاب جمهور المشاهدين والقراء من خلال تقديم أحداث تجمع بين الرعب والاثارة.

إن تفشى مشاعر الهلع لدى المواطنين الاميركيين يمنع المؤسسات الحاكمة والمواطنين من قبول فكرة تصحيح أية اخطاء مرتبطة بالمخاوف التى قد لا تستند الى أي أساس، بل إن انتشار الخوف أدى الى اجهاض الجهود الرامية الى استصدار قوانين لمنع إنتشار الاسلحة النارية.

وحتى على المستوى الاقتصادي، فإن صناعة الخوف وترويجه باتا تجارة مربحة للغاية بالنسبة لبعض المؤسسات الاقتصادية والسياسية، بل إن وجود بعض أقسامها مرتبط بإستمرار حالة الهلع، كما هو شأن عقد صفقات الاسلحة الضخمة، واعلان حالة الطوارىء والاحكام العرفية التي تشكل بحد ذاتها بيئة خصبة لمناشط تجارية موصولة بمنسوب مرتفع من ثقافة الخوف.

من منظور بعض الجماعات الدينية، فإن تفشي ثقافة الخوف يعيد إحياء الافكار المسيائية السكاتولوجية التي تبشِّر بظهور المهدي المنتظر والمسيح عيسى بن مريم، حيث أن العقيدة الشيعية التقليدية تقوم على أن ظهور المهدي يؤول الى (ملء الارض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً)، كمقدمة لانقشاع إشعاعات الخوف، وتبدّد سحب الكآبة عن كوكبنا. يمهّد لهذا الظهور عمل دؤوب تقوم به فرقة ضئيلة العدد كثيفة الحضور لترويج ثقافة الخوف من خلال الاستعانة ببعض الروايات الدينية الهزيلة في سندها وسبكها، تقول بأن تفشِّي الانحراف والظلم والخراب ضرورات قبلية وتمهيدية، أو ما يسمى علامات لظهور المصلح المهدي عند المسلمين والمسيح عند النصارى، بل قد يجنح بعض رموز هذه الفرقة الى حثِّ أتباعها على الاسهام في المزيد من الاقترافات وارتكاب الرذائل والجريمة من أجل تسريع عملية ظهور المصلح، وتوفير الشروط الاجتماعية والدينية لظهوره.

وبوجه عام، فإن الخوف أصبح سلاحاً فتّاكاً يجري إستعماله في جبهات متعددة ولغايات مفتوحة. إن ثمة دوراً مشبوهاً تزاوله عن عمد جماعات عديدة لاقناع العامة بأن الموت يحيق بهم من جميع الاتجاهات بدءاً من ركوب السيارة وحتى تناول الطعام. وكما يبدو بجلاء، فإن الغرض من تضخيم هذه الحوادث لاستغلالها بطريقة خاطئة، حيث يقع الافراد ضحية نظرية المؤامرة. فقد أظهرت إستطلاعات الرأى ان حوالى %75 من الاميركيين يشعرون بمخاوف غامضة لا يعرفون مصدرها، اذ أن كلَّ شئ تقريباً أضحى باعثاً على القلق والارتياب، ويؤكد الاميركيون أنهم يعيشون فى ظروف إستثنائية عصيبة، بالرغم من الآراء التى تزعم سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات العالم، ولكنها مع ذلك تعجز عن توفير الأمان لشعبها فى الداخل.  بل إن النخبة الحاكمة تتآمر على الشعب الامريكى بهدف تعظيم مصالحها الخاصة، وذلك من خلال العمل على الترويج لثقافة الخوف، وقد تجسِّد ذلك فى الإقبال الواسع على الروايات التى تتحدث عن عالم الرعب بكل ما ينطوى عليه من مفارقات وغرائب، ولذا لم يعد أمراً مثيراً للدهشة في أن تحقق رواية هارى بوتر بأجزائها المتعددة أعلى نسبة مبيعات فى الولايات المتحدة بالرغم من انتماء المؤلِّفة الى بريطانيا، كما تشهد الولايات المتحدة إقبالاً غير مسبوق على إنتاج الأفلام التى تجسِّد مشاهد الرعب والمعارك الهائلة من نوعية أفلام يوم الاستقلال وعلى خط النار وغيرهما من الاعمال التى حصدت أرباحا تقدَّر بمئات الملايين من الدولارات.

وفيما يبدو، وكمحاولة هروبية من الواقع، بات المجتمع الاميركي يدمن الاحساس بالخوف كتراث عزيز لا يسهل التفريط فيه، لدرجة أن أياً من المصنفات الفنية أو العلمية التى لا تتصل بهذه الظاهرة لا يكتب لها الرواج فى الولايات المتحدة، مهما كانت درجة الاتقان والرصانة التى تتميز بها هذه المصنّفات.

في المشرق العربي، حيث يسكن الخوف، فإن الغني يجني المال ولا يصرفه وهو متذرع بأن القرش الأبيض هو لليوم الأسود لأن الحياة ليست مستقرة في بلادنا الشرقية، فالغني يمكن أن يصبح فقيراً بين ليلة وضحاها، فالخوف من المجهول، والمستقبل، والمستور، يستبطن تعبيرات خوف آني، وإن كان خوف المشرق يعبر عنه سلبياً بالصمت، بالانطواء على الذات، وبتغيير خارطة الاذهان وجدول الاهتمامات وقائمة الاولويات على مستوى الافراد والجماعات، عملاً بالقول الدارج (الباب اللي يجي منه الريح سدّه واستريح) أو (إبعد عن الشر وغني له) فالشر هنا يقصد به كل مايقرّب من نقطة الخطر ويجلب الضرر.

(إن الشيء الوحيد الذي يجب علينا الخوف منه هو ذلك الخوف مما يصنعه الخوف) حسب مقولة منقولة عن الرئيس روزفلت عام 1933. ويشير كيرتشوف وكيرت باك الى أن (الاعتقاد بتهديد ظاهر يجعل من المحتمل شرح وتبرير إحساس شخص ما بعدم الارتياح). فالخوف من الخوف يثير فزعاً أشد من الخوف ذاته، وكما يقول علي بن ابي طالب عن الانسان (وإن غاله الخوف شغله الحذر)[6]، فإندكاك الانسان في خوفه يستنزف طاقته الذهنية في تصنيع التدابير الاحترازية الحمائية، وهو ما تنهمك وسائل صناعة الخوف لأجل إدامته. إن التغطية الاعلامية تزيد في عدد الناس المصابين بأعراض تغذي التغطية الاعلامية.. فالخوف يخلق شيئاً ما نخاف منه، بحسب باري جلاسنر، وهو يدمّر تفاؤلنا ويجعلنا نعتقد بأننا غير قادرين على حل مشكلاتنا[7].

وينقل باري جلاسنر عن البروفسور Esther Madriz في كلية هنتر الاميركية بأنه أجرى مقابلة مع نساء في مدينة نيويورك حول مخاوفهن من الجريمة فكنَّ يردَّدن عبارة (شاهدت ذلك في الاخبار). ويعلق هنتر على ذلك بأن الاعلام الخبري يشكّل مصدراً لخوفهن وسبباً يجعلهن يعتقدن بأن تلك المخاوف واقعية. وفي سؤال استطلاعي على المستوى الوطني حول السبب الذي يجعل الافراد المشاركين في الاستطلاع بأن البلاد لديها مشكلة جريمة خطيرة، نقل 76 بالمئة منهم قصصاً شاهدوها في وسائل الاعلام، و22 بالمئة فقط رووا تجاربهم الشخصية.

وكان البروفسوران Robert Blendon و John Young من جامعة هارفارد أجريا سبعة وأربعين مسحاً حول إستعمال المخدرات ما بين عامي 1978 و1997، وتوصلا الى أن أخبار الصحافة، أكثر من التجربة الشخصية، تزوّد الاميركيين بالمخاوف المسيطرة عليهم. إن القلق المنتشر على نطاق واسع حول مشاكل المخدرات تنبعث، حسب الباحثين، من المخاوف في الاعلام الخبري وبخاصة التلفزيون. وهذا يعني، بأن البرامج الخبرية المتلفزة تعيش على المخاوف.

إن نشر احصائيات حول الأمراض وعدد المصابين بها تثير، دون ريب، حالة هلع وتدخل ضمن صناعة بيئة ثقافية للخوف. في عام 1996 قام الكاتب الأميركي بوب جارفيلد باستعراض مقالات حول الامراض الخطيرة المنشورة خلال عام واحد في كل من صحيفة (واشنطن بوست) و(نيويورك تايمز) و(يو إس أيه توداي) وتوصل الى أنه بالاضافة الى 59 مليون أميركي يعانون من أمراض في القلب، هناك 53 مليون أميركي يعانون من الصداع النصفي، و25 مليون أميركي يعانون من هشاشة أو ترقق العظام  osteoporosis، الى جانب 16 مليون يعانون من داء السمنة او زيادة الوزن obesity، و3 ملايين مصاباً بالسرطان. وفوق ذلك، فإن كثيراً من الاميركيين يعانون من أكثر من مرض معيق مرتبط بالمفاصل (10 ملايين مصاباً) وإمراض في المخ (2 مليون مصاباً). حين تجمع تلك التخمينات، يقرر جارفيلد بأن 543 مليون حالة مرضية خطيرة يعاني منها الشعب الاميركي، وهو رقم صادم لأمة يبلغ تعداد سكانها 266 مليون. ويعلق جارفيلد على ذلك (إما أن نكون كمجتمع متشائمين أو أن هناك شخصاً ما يرسم صورة مضخمة)[8].

إن القلق إزاء الاخطار الحقيقية، حين يتجاوز حدوده المعقولة يسبب ضرراً فادحاً، كما هو شأن الخوف من بعض الامراض مثل (السرطان، والايدز، وانفلونزا الطيور، والجمرة الخبيثه ، وجنون البقر..). فحين يصدر تقرير طبي يفيد بأن نسبة الاصابة بمرض سرطان الثدي بين النساء في سن الاربعينيات تتراوح مابين 1ـ 10 فإن ذلك من شأنه صناعة بيئة هلع من الموت الوشيك لدى النساء في هذا السن وصاعداً. وقد لحظنا كيف فعلت موجة الهلع العالمية فعلها حول خطر انفلونزا الطيور، والتي لم يتجاوز عدد ضحاياها المائة.

فنطاق المخاوف الصحية لا حدود له، وأن إغمار العالم بموجة رعب حول أخطار متخيّلة رسم، بلا شك، صورة سوداوية وتبعث على الهلع، وهذا يقرع وعينا بحقيقة مؤكّدة، أن الخوف بات مكوّناً جوهرياً في ثقافة الاستهلاك، فالاخبار المثيرة للفزع تدفع الناس لمشاهدة التلفاز وشراء الصحف، ونلحظ ذلك أيضاً من الاقبال الواسع على أفلام الرعب.. إن الاسواق تستقبل الخائفين من انعدام بعض السلع، وتتفشى عدوى الخوف في أوقات الحروب.

في القرن الماضي، كانت الحرب الباردة خاضعة تحت تأثير الخوف من قيامة نووية. ولأن الخوف هو وارث خوف آخر، فإن الخوف من الحرب النووية المتخّيلة تستعيد وتطوّر وتحتل الخوف من الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية وتحديداً مشهد القاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان. أما الآن، فيعاد إنتاج الخوف في صيغة أشد خطورة وإنتشاراً من خلال الحديث عن تسونامي إرهاب أصولي يشنّه أناس مدججون بأشد الاسلحة فتكاً ويستعلمونها بطريقة سادية وجنونية.

3ـ أنها واحدية التوجيه والغاية، فوحدها ثقافة الخوف المراد ترسيمها ليكون تداولها مشروعاً، فيما يغدو غيرها مروقاً وكفراً، بل وجريمة يعاقب عليها القانون، فهي بهذا المعنى إقتلاعية وإقصائية.. حيث يغدو الخروج على المألوف شقّاً للصف، وهتكاً للستر، وخرقاً للاجماع، بل وضرباً من الجنون، فالاجماع متحقق ومحكم حين تكون ثقافة الخوف مصدره الوحيد. إنه لمما يدعو للسخرية أن يقرن الخائفون بين الشجاعة والبلاهة، وكأن ثمة مخبراً مندّساً في اللاوعي الجماعي يبثُّ رسالة منتظمة بأن المجنون من شذّ عن القطيع والهلاك نتيجة حتمية لمن فارق الجماعة.

يتقمَّص أورويل دور صنّاع ثقافة الخوف ليخاطب قُرّاءه بلغتهم (كل شيء في داخلك سيموت، لن تعود قادراً على الحب، والصداقة أو التمتع بالحياة أو الضحك أو التعجب أو الشجاعة أو الاستقامة، إنك ستكون كصَدفة فارغة، سنعصرك حتى تصبح كالجيفة الخالية من كل شيء ثم نملأك بأنفسنا)[9].

4ـ تعطيلية، بمعنى الارتهان الجماعي لصنّاع ثقافة الخوف ومصادرها، والاستقالة أمام الواقع، والانغماس في الراهن والانحباس في اللحظة مع تخصيب أفق الخوف من المجهول وعنصر المفاجأة ومداهمة الغيبي واللامحسوب.

لقد نبّه جورج أورويل على مكمن خطورة ثقافة الخوف في سياق فحصه لمكوّناتها وأغراضها، حيث حددها بصورة مكثّفة في التفكير المزدوج الذي يفرز ثنائيات متضادة: المعرفة والجهل، الصدق والكذب، الايمان وعدم الايمان، المنطق وضد المنطق، الديمقراطية والاستبداد، الذاكرة والنسيان. هو هذا التفكير المزدوج المطلوب إستعماله بحسب كل حالة، وهو يلخًّص عقيدة الحاكم المستبد في مواطنه: (ان عليك ان تهزم نفسك قبل أن يصبح بامكانك ان تكون سليم العقل)[10].

إن العقل السليم هنا هو ما يسهب الروائي السوري سعد الله ونوس في تعريته في مسرحية (يوم من زماننا)، حين ينتج العقل مضاداته عبر سلسلة ثنائيات متضاربة، حيث يبدو هذا العقل مركزاً للتفكير في الشيء ونقيضه، فهو مع الحرية وضدها، ومع القيمة العليا ونقيضها. هو عقل مصمم كي يكون مأجوراً دائماً لخدمة أغراض السلطة، وفي الوقت نفسه قادر على تكييف نفسه بصورة تلقائية مع متغيرات الواقع، مستعيراً من محفوظاته المنصوبة من خارجه ما يناسب كل مستجد. وهو عقل قادر أيضاً وبصورة مذهلة على أن يمنطق تحوّلاته من موقف الى نقيضه، بل وأن يسبغ على القيم الفاسدة وشاحاً قدسياً، حين يبتكر لكل مفردة قبيحة مقابلها الجميل، فحتى الفساد يصبح مبرراً حين يستبدل عنوانه كما تستبدل السرقة بالكميسيون والرشوة بالربح المشروع، تماماً كما أستبدلت قيم عديدة في ثقافتنا اليومية، فصار الاستبداد، والحكم الفردي، والقمع، ومصادرة، الحريات، وانعدام التعددية الحزبية ثاوية في جوف شعارات كبرى مثل الوحدة الوطنية، ومقاومة الاستعمار، ووحدة القيادة ضد مؤامرات الخارج والعملاء في الداخل. هذا العقل هو الذي أوصل فاروق، أستاذ الرياضيات في رواية (في يوم من زماننا) الى إعلان التمرد على عقله المفصوم والفرار من عذاب تلك الثنائية المعيقة التي تجعل من الولاء للسلطان القيمة النهائية والوحيدة. فقد كان فاروق يريد أن يحمي الاخلاق بينما كان مدير المدرسة يريد أن يحمي الرئيس، وأن أم الفضائل لدى المدير هو (محبة الرئيس والولاء له)[11]. ولكن فاروق الذي أعيته الوسائل الحوارية في التأثير على المدير والشيخ ومدير المنطقة، إكتشف غربته في مجتمع الخوف (في المدرسة، والجامع والشارع والمديرية وحتى بيوت البغايا)[12]، فقرر الرحيل لابطال مغنطة ثقافة الخوف، واختار الموت بديلاً عن فعل الخيانة مع (دولة هذه الايام)[13]. لقد اكتشف فاروق بأن إنحلال المجتمع يبدأ، في إدراك الحاكم، في الخروج عليه وليس في فساد المجتمع أخلاقياً، ولذلك تصبح عبارة (إنهم يشتمون الرئيس) ناقوساً مدوّياً حيث تختزل الدولة في شخص الحاكم. فقد تربى كل فرد في مجتمع الخوف على أن كل فرد مسؤول مؤتمن على حماية مؤسسته من جرثومة السياسة وأن يربّي من يعمل معه على الولاء والطاعة. وفي رد فعل إنتحاري، قرر فاروق أن يتحرر من النفاق الخلاّق ونزع قناع الزيف المتعدد بحسب تعدد المواقف، وإن كان التحرر يتطلب التضحية بالروح، وكما قال الشاعر الجزائري المغدور به الطاهر جالولوت: إن تكلمت قتلوك, وإن سكت قتلوك, فقل كلمتك ومت.

إن الهزّات الارتدادية العنيفة لثقافة الخوف تتجاوز بالتأكيد حافّات المجتمع الواقع ضمن مجال تأثير وجبروت تلك الثقافة، بل تستوعب الدولة بكاملها، فالخوف يسري في أحشاء رجل السلطة بنفس القدر الذي يطال رجل الشارع، فالكل في الخوف سواء، وإن كان الخوف مخلوقاً سلطوياً بإمتياز. ثقافة الخوف هذه ترهن أفراد السلطة والمجتمع الى نوع من العلاقة المهجوسة بكل ما تنذر به من مفاجئات أو ما يختمر في أذهان ضحاياها على كونها كذلك، فالانحباس في اللامرئي والغائب والمستور يهيمن بسطوة على شبكة العلاقات الداخلية بين فئات المجتمع وبينها وبين السلطة. هذه بيئة الخوف التي تفرض أعرافها في مقابل القانون الناظم لكل علاقات سويّة، ومستقرة، وفي مثل هذه البيئة يصبح التراكم الرهابي بالغ الثراء وغزير الانتاجية، حيث الخوف يولد من رحم خوف آخر، لينضاف الى أشكال أخرى من الخوف، وفي نهاية المطاف، تتظافر سوية لصناعة بيئة خصبة لثقافة الخوف، فالخوف في البيت يلتقي بالخوف في الشارع والمدرسة والسوق والمؤسسة والجامع والجامعة وصولاً الى تلبيد الفضاء العام بكل محتوياته بخوف مطبق، لتلتقي في مصب واحد هو تصنيم السلطة المهيمنة صانعة الخوف الأكبر.

فالقابضون على مصادر السلطة سواء كانت إجتماعية أو فكرية أو دينية أو سياسية مفتونون بخنوع الاتباع حد الأسر، فالتلذذ بالسيطرة يغري أولئك بإبقاء سحرهم المطعّم بالفزع على أولئك الذين وقعوا في الأسر، ولا يمكن لغير ثقافة الخوف أن تحول دون بقاء الأسرى في أقفاصهم. إن هذه الثقافة يراد منها أن تكون ميراثاً ينتقل من جيل لآخر، فلا تنعقد رابطة بين إثنين الا كان الخوف ثالثهما. ولذلك، فإن الحرية تصبح هنا ممقوتة لأنها تهشّم قيود الاسر، من كل أشكال العبودية. وحسب قول إريك فروم:

فالشخص الذي تغلب على الجشع ولم يعد يتشبث بأي معبود ولا بأي موضوع وبالتالي لا يملك شيئا يجب أن يفقده: إنه غني لأنه مجرد وهو قوي لأنه لم يعد عبداً لرغباته. يستطيع أن يطرح الأصنام والرغبات اللامعقولة والهلوسات لأنه على تلاؤم تام مع الواقع، في داخل نفسه وخارجها. فلو أن شخصاً كهذا الشخص قد بلغ "صحواً" كاملاً فلن يعرف بعدها الخوف. ولن تكون بسالته تامة إذا هو إتجه نحو هذا الهدف دون بلوغه. وكل شخص، مع ذلك، يميل نحو هذه الحالة التي يكون فيها هو ذاته على وجه تام، يعلم أن شعوراً من القوة والفرح، في كل خطوة جديدة تُسلك إليها، يستيقظ ولا يدع مجالاً لأي شك. ويحسّ بأن مرحلة جديدة من حياته قد بدأت. ويستطيع الشعور بحقيقة أقوال غوته: "لقد بنيت بيتي على لا شيء لذلك فإن العالم بأكمله هو ملكي"[14].

الحرية هي دون شك مبيد ثقافة الخوف، لأنها تبطل مفعول منظومة الفيروسات المندسَّة في هذه الثقافة، من قبيل العبودية، والخنوع، والسكون، والانكفاء على الذات، واليأس، ليستعيد الفرد بالحرية إنسانيته بكل قيمها النبيلة ويرسم خطاً جديداً لحياة تقوم على الشعور بالكرامة، والأمل، والحركة، والسباق نحو التقدم على مستوى الفرد والمجتمع، والتنافس بكافة أشكاله، وتمزيق شهادة العبودية التي كتبت في لحظة ميلاده ليعيد كتابة حريته بخط يده. يعلن الفرد تمرده بعد أن أنصت بإهتمام الى رسالة الضمير المدوّية التي أطلقها جورج أورويل: يها الإنسان احذر هذا الاستبداد وقاومه بكل ما لديك من قوة قبل فوات الأوان، وإلاّ سيقضي على شخصيتك وإرادتك ويحوّلك إلى أداة غير قادرة علي التفكير)[15].

 

ـ العامل الاجتماعي: التنشئة الاجتماعية

إن كل خوف ذي طابع جماعي يتستر بثقافة، وليس هناك أقوى من المجتمع كوسيط نموذجي في صناعة ثقافة الخوف. فمجتمع الخوف مولّد نشط لأشكال متعددة من الخوف، فالاستبداد السياسي ينشأ ويتوسل بخوف المجتمع، والاستبداد الديني المولّد بدوره للاستبداد السياسي هو الآخر مكفول بخوف المجتمع. فالاخير وحده الذي يقرر متى يقلع عن أشكال الاستبداد المختلفة، أي متى ما تبدَّل منسوب وعيه الثقافي، وهو تبدّل منوط بقلب منظومة التنشئة االفردية والجماعية، أي محو آثار النظام القيمي المسؤول عن صناعة ثقافة الخوف.

في مشرقنا العربي، نولد بقائمة من النواهر والزواجر التي تقرر وتقدّر للمرء مسيره ومصيره لينشأ على (ذهنية الممنوع) بالمعنى الواسع، لتصبح القاعدة: كل شيء ممنوع أو حرام الا ما ثبت بالدليل. إن تمدّد منطقة الخطر والممنوع يبدأ بحظر ذهني حيث يكون اللامفكر فيه واللايجوز الاقتراب منه أكبر من المباح الذهني، ليعكس الحظر في السلوك الفردي والجماعي في هيئة انطواءات متعددة الاشكال إجتماعية وسياسية.. قلة هي دفعة الحوافز التي يحصل عليها الفرد في مجتمع الخوف من أجل المغامرة والسباق نحو إقتحام المجهول، فثمة إختلال عميق بين الحوافز والكوابح.

تسجّل الباحثة النفسانية سوزان جيفرز في كتابها (Feel The Fear And Do It Anyway) خلاصة تجاربها  وتذكر بأنها لم تصادف في حياتها أن سمعت أمّاً تطلب من طفلها حين يذهب الى المدرسة قائلة له (قم يا حبيبي بالكثير من المغامرات اليوم)، ولكن من المحتمل جداً أن تنقل لطفلها عبارات من قبيل (حبيبي إنتبه لنفسك). وتعلِّق الباحثة (إن عبارة إنتبه لنفسك تحمل في طيّاتها رسالة مزدوجة: فالعالم هناك خطر للغاية..و..ليس بإمكانك التعامل معه)[16] أو مقاومته. وكما يظهر من هذا المشهد، فإن الأم تنقل عدم ثقتها في القدرة على التعامل مع مايصدف في طريقها الى إبنها.

وإذا ما تذكّرنا لافتة ليفي شتراوس في كتابه (بلدان المدار الحزينة) بأن الانسان هو النتاج الاساس للمجتمع الذي يعيش فيه، وهي لافتة تستظل بوجهة نظر أرسطو الذي كان يرى في الانسان حيواناً إجتماعياً خلق ليعيش في المجتمع[17]، فإننا ندرك حينئذ بأن الضغوط التي يمارسها المجتمع على أفراده هي من نوع سيكولوجي أولاً ثم تتخذ شكلاً ثقافياً، حيث تصبح ثقافة الخوف مشروعة على وقع رهاب المصلحة العليا للمجتمع والصالح العام، أو الاحساس المتفجر بالخطر إزاء شيء ما، قد يبدو أحياناً مجهولاً حتى لصاحبه، ولذلك فإن كافة إمكانات النمو الثقافي والذهني والعاطفي لدى الافراد تتعطل أو تُختَطف، بصورة شبه كاملة، لمجرد إخصاب بيئة ثقافية تقوم على افتعال شعور جمعي بالتهديد والخطر. فالوراثة الاجماعية، إي إعادة الانسان الى وسطه الاجتماعي وربطه أكثر بما أو بمن يحيط به فرضت نمطاً صارماً من إندكاك الافراد داخل البيئة الثقافية السائدة، أي بيئة الوسط الناجمة عن الولادة، حيث تكون رؤية الاشياء ذات طابع اجتماعي وليس فردياً، بحسب بيير إمانوييل في كتابه (من أجل سياسة ثقافية)[18].

إذن، الخوف يستنسخ خوفاً في عملية تكاثر مفرطة في إنتشارها، فقد أريد لنمط التربية في المجتمع أن يكون موحّداً لتنشأ أجيال الخوف الخانعة، وهنا تكون التربية بحسب تعريف ماكس فيبر (وسيلة من وسائل الهيمنة الاجتماعية)، فالمجتمع يتكفَّل بإنتاج الخوف والترويج له عبر نمط تربوي موحد وقهري، وهنا تتشوّه عملية التكامل الاجتماعي أو التوافق الاجتماعي كما يلفت اليها دوركهايم، فتصبح الشمائل المطلوب تنشئة الاطفال عليها لادماجهم في المجتمع عادات مروَّضة تحول دون انفصالهم عن النظام الصارم للمجتمع أو الارتطام به.

وهنا يصبح تعريف هيرسكوفيتس M.J.Herskovits للتربية مناسباً بوصفها عملية تطبيع ثقافي أو دمج ثقافي enculturation ، أي تبني الانماط السلوكية في الثقافة المحيطة، بكلمات أخرى تطبيع المعايير السائدة في ثقافة الاطفال. وبحسب تعريف ميستشا تيتييف Mischa Titiev فإن الدمج الثقافي يعني (التطبيق الواعي أو غير الواعي الحاصل خلال السيرورة التعليمية حيث يحصل الانسان، طفلاً وراشداً،  على كفايته من ثقافته)[19]. أما الصائغ الأول لمصطلح (enculturation) هيرسكوفيتس عام 1948 فيرى بأن الناس الذين يولدون بآليات بيولوجية موروثة يجب عليهم إما التحوّل أو السيطرة في توافق مع طريقة مجتمعهم في الحياة، أو التحول الى أشكال إجتماعية مقبولة للسلوك الثقافي[20].

فالتطبيع الثقافي يعني، في المنظور الاجتماعي، عملية تربوية يتم عبرها نقل القيم والعادات من جيل لآخر، وصولاً الى تحقيق حالة من الانسجام الثقافي المرغوبة لاستقرار النظام والتعايش الخلاّق للمجتمع[21]. وبينما تخلق هذه العملية ـ في تطبيقها الصحيح ـ هوية خاصة بالأبناء تغدو موضع فخرهم وكرامتهم وتمايزهم الحضاري، فإن في مجتمع الخوف تصبح عملية التطبيع الثقافي ذات أغراض مضادة تماماً.

التطبيع الثقافي، حين يسري عبر الحقل التعليمي، يمظهر نفسه في محتويات وتدابير علم التدريس، فمن خلال المحتوى التعليمي يصبح الفرد أكثر إطِّلاعاً وإلماماً بقيم وعادات مجتمعه، وعبر التدابير يكتشف بأن تقدّمه يقاس من خلال إنجازه في مجال المهارات والنظرات التي تطوّر مظهر وتطلعات مجتمعه. هذا كله يعني، أن قيم مجتمعه هي المقياس لمنجزه وتقدمه وتقديره.

في إدراك ذلك، يشتمل الحقل التعليمي بوصفه ادة التطبيع الثقافي، على قناة واسعة لانتشار عدوى الخوف حيث تسري بوتيرة سريعة في كل زوايا المجتمع وتمتد لكي تشمل كافة الفئات، لتغذي رد الفعل التلقائي الغريزي، بما يشبه الى حد كبير الحركة المضطربة التي تنتقل الى الحيوانات عندما تتجمع في هيئة جمهور. وبحسب غوستاف لوبون (فصهال حصان في إسطبل ما سرعان ما يعقبه صهال الأحصنة الاخرى في نفس الاسطبل. وأي خوف أو حركة مضطربة ما تصيب الخراف سرعان ما تنتقل الى بقية القطيع)[22]. فالانسان يشبه الحيوان حين يكون في هيئة جمعية، بحيث يميل أفراد المجتمع الى تقمّص الزعماء الذين يمارسون عليه تأثيراً أخّاذاً، حيث لا مجال للمقاومة.

إن ثقافة الخوف تتمظهر في لغة التخاطب اليومية والتي يعبر عنها في الاجابات السالبة (لا أستطيع، غير ممكن، صعبة، بعيد، مستحيل..). هذه الثقافة تستعير من ميراث المجتمع الثقافي والتاريخي الذي إنداثت في وعيه اللاهوتي أفكار قدرية، وتحوّلت الى مادة تربوية يتلقاها الفرد في البيت والمدرسة والجامع ويكرّسها الحاكم، لتسويغ الرضوخ والقبول بالهزيمة والانصياع تارة تحت عنوان (القضاء والقدر) وتارة (الجبر) وثالثة (طاعة ولي الأمر) ورابعة (وحدة الجماعة واتقاء الفتنة) وهكذا..، وقد جرى توظيف هذه المنظومة العقدية لترسيخ الاستبداد والتماهي في المجتمع العضوي الذي يلغي فردانية الفرد، وتغييب العقل لحساب تلقائية القطيع. فمن جبروت النزعة الابوية داخل الاسرة الى المجتمع الأبوي الذي يمارس دوراً سلطوياً طغيانياً على أفراده مكرهاً إياهم على إعتناق ما جبل عليه من أساطير وخرافات وهلوسات تشكّل مجتمعة مكوّنات لثقافة الخوف، التي يتعاطاها الأفراد بملء إختيار وإرادة المجتمع عبر مدمني تلك الثقافة وممثلين عنها كل من موقعه، في عملية تقاسم للأدوار فالأب في أسرته، والمعلّم في مدرسته، والشيخ في جامعه، والمدير في شركته، وصولاً الى (ظل الله في الارض) أي الحاكم في سلطته، لتنداح تلك الابوية في كل أوجه الحياة تقريباً، وحيثما وجدت رابطة مصلحية أو إجتماعية من نوع أو آخر. فإذا ما قلبنا الهرم الأبوي من فوق ـ السلطة الى تحت ـ المجتمع، فستكون النتيجة مفجعة، حيث تنتقل ثقافة الخوف بكميات الهلع والقمع المحشوّة بداخلها الى كل مكوّنات المجتمع وتشكيلاته، لتعود تلك الثقافة تنتج نفسها تلقائياً في عملية ميكانيكية بحيث تكون لغة الخوف بكل متوالياتها لغة التخاطب اليومية والعنصر الحاكم في علاقات فئات المجتمع ببعضها البعض.

ولذلك، لا تتضمن الشهوة في القوة الكامنة للسيطرة في اقتدار المستبد إنما في الضعف النفسي الذي يتمتع به، وهذا العجز يقود إلى ما يطلق عليه ظاهرة "المازوكية" وهي شعور ينتاب المستبد بهم من أفراد المجتمع ويقودهم إلى اللاجدوى والتلذذ بالألم. يرى إريك فروم أن الفرد يكف عن أن يصبح نفسه، إزاء استسلامه لقيم المجتمع السائدة إنه يصبح كما يريد له الآخرون وكما يتوقعون منه[23]. وهي ميول بصفتها العامة مرضية، وتعد هذه العلاقة المتبادلة ضرورة لكلا الطرفين، فالمتعة السَّادية للحاكم يقابلها خضوع الأفراد لقوى تحررهم من الخوف، ومن هذا المنطلق تتشكل "ثقافة الخوف" في المجتمع.

لاشك، أن بيئة كهذه لا فسحة  فيها للابداع، لأن الابداع ينمو في فضاء الحرية، أما الخائفون فمشغولون بالتفكير في توفير طرق آمنة لضمان بقائهم على قيد الحياة، والفرار من الموت، وإن مجتمعاً يكون أفراده على هذا النحو، تموت فيه الكفاءة وتخبو فيه العبقرية، وتنحسر فيه المنافسة نحو التقدم، فيكون مجتمعاً يدمن الخضوع، والقبول بالمقسوم، والاكتفاء بما في اليد، ونبذ التجديد والتغيير لأن كل جديد، من وجهة نظره، ينطوي على خوف من الاسوأ، في تعبير عن اليأس واستحواذ اللحظة على المستقبل.

إن الروابط الداخلية في مجتمع الخوف تنشأ على قواعد مختلفة بل وغير ثابتة، فليس هناك ما يمكن أن يشكِّل مرجعية معياريّة، بل هي روابط واجفة مرتجفة رهينة لوتيرة الخوف المتأرجحة، وللخوف قواعده كالمجاملة المفرطة، والكذب الملبّس زي الحقيقة، أو ما يصطلح عليه هشام شرابي التمويه وإن كان الكذب والتمويه يلتقيان في هدف واحد وهو حجب الحقيقة، مع اختلاف في الاسلوب، ففي الكذب، حسب شرابي، تُنفى الحقيقة وتُستبدل بكذبة، أما في التمويه فالحقيقة لا تنفى، ولا تظهر بشكل كذبة، بل تظهر في زي حقيقة أخرى تدَّعي أنها الحقيقة الصحيحة، يضاف اليها قواعد أخرى من قبيل إزدواجية الشخصية التي تتمظهر في التضّرع للقوي والتنمّر على الضعيف[24].

ينبّه  هشام شرابي الى خطورة دور النظام التربوي في إعادة إنتاج التخلف المزمن ونظام القهر الموروث، ويلفت الى أن "التمويه الذي يمارس في المدرسة يمكن نقده وتغييره، لكن التمويه الذي نتعرض له في السنوات الأولى من حياتنا يكون حاجزاً من الصعب تجاوزه. والضرر الذي تسببه طريقة تربيتنا ومعاملتنا في الفترة الأولى من حياتنا يصعب تشخيصه وإبراز معالمه في وعينا المباشر وبالتالي إصلاحه وتجاوزه".. وحيث يخضع الطفل لاستبداد الأبوين المسقط من الاستبداد العام، وينشأ في كنف أم تقهر في داخله نوازع المعرفة، يتعود على الخضوع لآراء الآخرين دون تردد أو تساؤل. "وهذا ما ينمي في نفسه الإذعان للسلطة ولكل ما هو أقوى منه أو أعلى مرتبة وجاهاً"[25].

وعلى أفق أوسع، يجادل شرابي بأن النظام البطريركي يستوعب الهياكل الكبرى (المجتمع والدولة والاقتصاد) كما يستوعب الهياكل الصغرى (العائلة أو الشخصية الفردية)،  فالنظام الابوي يهيمن على المجتمع محافظاً كان أم تقدمياً، فهيمنة الاب هو المركز الذي تنظّم حوله العائلة الوطنية أو الطبيعية، وأن ثمة علاقات عمودية بين الحاكم والمحكوم وبين الاب والإبن.. فالارادة الأبوية هي الارادة المطلقة التي تتوسط في المجتمع والعائلة من خلال إجماع مفروض بالقوة قائم على الطقس والاكراه[26].

يفتح المولود في مجتمع الخوف عينيه على قوالب تربوية وثقافية جاهزة تغرس في روعه، منذ أيامه الأولى، مفهوم الطاعة والخضوع المطلق لينشأ عليها قبل أن تتفتح زهرة الحرية بداخله، فلا يولد الناس في مجتمع الخوف أحراراً كما ولدتهم أمهاتهم، بحسب الخليفة عمر بن الخطاب، بل يولدون عبيداً، لا يشعرون بالمساواة مع غيرهم، ولا بالاستقلالية في تفكيرهم، فالأنا الاعلى، أي سلطة المجتمع تنشأ داخل الفرد لتكون السلطة المطلقة التي توجِّه سلوكه وتفكيره.

إن ثقافة الخوف تنتج يأساً ليس على مستوى الفرد بل وعلى مستوى المجتمع، فيولد الافراد في مجتمع يائس تعطبه مشاعر الضعة والكآبة والضجر وفقدان الأمل. فتيئيس المجتمع يراد منه توفير بيئة لكل المتناسلين منه كي ينشأوا على اليأس السائد، وإمتصاص قيمه، فلا يحيد عن خط اليأس الذي يعيشه المجتمع بالغ ما بلغت قدرته. وبحسب ملاحظة إريك فروم:

ولسوف نلاحظ بأن تنمية الأمل أو اليأس عند الفرد تكون محددة، على مدى واسع، بحضور الأمل أو اليأس في مجتمعه أو في طبقته. وأياً ما كانت الزعزعة التي يتعرض لها أمل الفرد في طفولته، إلا أنه لو عاش في حقبة من الأمل ومن الإيمان لبُعث رجاؤه. وفضلاً عن ذلك فإن الشخص الذي تقوده تجربته إلى الأمل، غالباً ما يكون لديه ميل إلى الاكتئاب وإلى اليأس إذا لم يبق للمجتمع أو للطبقة اللذين ينتمي لأحدهما من أمل[27].

ثقافة الخوف هي المسؤولة عن توسّل ضحاياها بما يصفه الدكتور مصطفى حجازي بالاساليب الدفاعية كرد فعل على اليأس من الانعتاق من ربقة الخوف، التي تعزل الانسان عن محيطه عبر الانكفاء على الذات والفرار أمام التحديات الراهنة والمستقبلية، والنكوص أي الارتداد الى سلوكيات تعود خصائصها الى مراحل عمرية سابقة، أي التصرف ليس على أساس العمر والنضج بل على أساس الموقف والوضع النفسي، هذا النكوص الذي يأخذ أشكالاً عدة مثل: التمسك بالتقاليد، والعودة الى الماضي، والامتثال للعرف السائد كقاعدة للسلوك والمعيار للنظر، والاحتماء بالأمجاد والمآثر الماضية، حيث يتم إعادة بناء صورة الماضي كيما تكون مصدر إلهاء وسلوة في مقابل العجز عن العيش في الحاضر فضلاً عن تغييره، والميل الشديد الى تحميل الآخرين الفشل، أي التنصّل من المسؤولية. ويلفت د. مصطفى حجازي الى العوامل النفسية والذهنية التي تنتاب الإنسان المقهور حيث تسوقه عقده وانفعالاته الى البحث "عن مخطئ يحمِّله وزر العدوانية المتراكمة داخلياً، ويغدو الاعتداء مشروعاً، لا يشكل عدواناً على قيمة إنسانية، بل على مصدر الشر"[28].  ويتطور الاعتداء الى التماهي الذي يأخذ أشكالاً عدة: التماهي بأحكام المتسلط، أي توجيه عدوان المتسلط الى نفسه وليس للمتسلط في عملية جلد للذات والحط من شأنها والاستسلام لشعور الهزيمة في الداخل، والتماهي بعداون المتسلط، حيث تتقمص الضحيَّة دور الجلاد، فتفرغ ما وقع عليها من مظالم على من هم أضعف منها، والأخطر من ذلك هو التماهي بقيم المتسلط وأسلوبه الحياتي، حيث يتم إمتصاص قيم الظالم والرغبة عند الانسان المقهور للعيش في عالم المتسلط واقتفاء سيرته في الحياة والسلوك و التفكير[29].

لا تسمح ثقافة الخوف بنشوء علاقات سويّة بين أفراد المجتمع، فكل شيء يتعرض للتشوية بل لليبوسة والجفاف والموت، وأن منظومة القيم الانسانية تتمزق على نحو متسلسل، فلا حوار، ولا حب، ولا إبداع، ولا عاطفة، فثقافة الخوف تسوق الجميع نحو الأسر الجماعي لمركز القوة المتحكّمة لتملي عليهم طريقة في التفكير وقيماً للتبني، وصولاً الى الحلول في جوف المستبد ـ المركز، الذي يستنسخ خلاياه السرطانية في بنية المجتمع ليخلقه على صورته.

ينبغي في السياق نفسه، إلفات النظر الى تداعيات التشوّه الناشىء عن ثقافة الخوف على فئات أخرى من المجتمع، وبخاصة الاقليات. فالتباينات الثقافية ذات تأثير خطير على الاقليات التي تشعر بالتهديد والخوف من الضياع وهنا ينشأ خوف العزل والانطواء. وإذا ما أدركنا بأن ارتفاع درجة الخوف يعكس زيادة الاحساس بالخطر، سواء كان هذا الاحساس حقيقياً أم متخيلاً، تجلّت هنا مشكلة الاقليات، والتي تعاني نوعاً مختلفاً من الخوف، وهو الخوف من العزلة (fear of isolation) والذي يعرّف عن طريقين: الاول إجتماعي/نفسي حيث تعرّف العزلة بوصفها تجارب جماعية سلبية وغير مرغوبة وتشمل الوحدة، وإنعدام الجماعة، والوحدة، الانحباس، أو الحجر[30].  فالخوف من العزلة هو رد فعل عاطفي على العزلة الموصوفة والتي تشمل هدفاً أو حاجة قوية لتفادي تلك الخبرات السلبية. الثانية، تعرّف نظرية الاتصالات الخوف من العزلة بوصفها قوة طاردة، أي ضغط من المجتمع لتسريع لولب الصمت.

ولولب الصمت، كطريقة يقترحها Noelle-Neumann، تسلِّط الضوء على الاقليات وخوفها من التعبير عن آرائها بصورة علنية، وبالتالي فإنها تميل الى إخفاء نظراتها حين يعتقد أفرادها بأنهم أقلية. والضغط الناشيء هنا على صلة وثيقة بمخاوفهم من كونهم قد يُقَيّموا بصورة سلبية من قبل الآخرين[31]. وهذه النظرية ترى بأن الاعلام الجماهيري يعمل بصورة عفوية مع رأي عام الاغلبية. وبالتالي فإن الافراد الذين يخشون من العزلة إجتماعياً يميلون الى التوافق مع ما يُعتقَد بأنه رأي الاغلبية. باختصار، فإن الخوف من العزلة يبدو كونه العامل العاطفي الذي يوجّه تصرفات الناس باتجاه الحالات المرغوبة في العالم عن طريق تحريك وجهات نظر ومصالح الناس إزاء المؤسسات الاجتماعية وآخرين حولهم من داخلهم.

في عرضه لنظريتي الوعي الزائف (false consciousness) يلفت جيمس سكوت الى لجوء الطبقة الحاكمة الى إقناع الجماعة المقموعة للاعتقاد بصورة فاعلة بالقيم التي تفسّر وتبرر خضوع أفردها. في المقابل، فإن الخوف من العقوبات يملي على الطبقة المقهورة اللجوء الى وسائل في المقاومة خارج الفضاء العام في سبيل إخفاء نواياها الحقيقية درءا لانتقام الظلمة[32].

ولكن بالرغم من ضراوة التأثيرات الطاغية والمدمّرة لثقافة الخوف فإنها تصبح عرضة للزوال حين تبدأ أنوية التمرد بالتكاثر والالتحام مع بعضها لتشكّل تدريجياً بيئة مضادة، كيما تخلق وسيطاً نموذجياً لنشوء المجتمع المضاد الذي ينزع للانقلاب على ذاته وواقعه، ليرسي نظاماً جديداً يقوم على إحترام حرية وكرامة الفرد وحقوق المجتمع في بناء مؤسساته المدنية المستقلة.

 

ـ العامل الديني: لاهوت الخوف

إرتبطت الثقافة الدينية بالبعد الغيبي المستبطن للمجهول، وكل مجهول ينطوي على خوف، حتى صار الدين نفسه، بحسب منهجية المنشغلين بتنضيده وترويجه، مصهراً تعبوياً لثقافة الخوف. وبحسب فحوى المنطق الديني الشائع (دع الناس يخافون وسيعبدون الله)، حيث تصبح صناعة الخوف جزءاً جوهرياً من الثقافة الدينية، ينبىء عنها رواج الكتب ذات الطابع الترويعي والعقابي التي تدور حول الموت وألوان العذاب بدءاً من القبر وانتهاءً بأهوال يوم القيامة. فقد بات تجبيل الناس على الالتزام الديني عبر إغراق المجال الثقافي للمجتمع بكتلة ضخمة من النصوص الدينية المحمّلة بجرعات هلع واسعة الانتشار والتأثير، ينعكس ذلك بوضوح في المصاهرة غير الشرعية بين طبقتي العلماء والأمراء وما تفرزه من ممليات عاضدة للسلطة.

تتأوّل طبقة من الفقهاء والوعّاظ النصوص الدينية والمحرّضة على السمع والطاعة للحاكم، والتخويف من الخروج عليه لاقتران طاعة الحاكم بطاعة الله والرسول وأن الخروج عليه خروج عليهما. تأوي هذه الطبقة سلطة الحاكم عن طريق تسخير وتطويع النص الديني لبسط السيطرة وزرع الهيبة في المحكومين، بما يجعل الدعوة الى إصلاح السلطة انتهاكاً لحكم ديني ومنازعة لأمر الله سبحانه. ندرك ماذا تحمل كلمات (الفتنة) و(الخروج على الاجماع) و(المفسدة) من شحنة دلالات تكفي لسحق أي دعوة للاصلاح، فالصمت خوفاً من التجديد أو الحاكم الظالم يندرج في الخوف الحميد، أي الخوف من الفتنة، والخوف من الشقاق، والخوف من خرق الاجماع، والخوف من المفاسد. هكذا تصبح السلطة دينية كانت أم سياسية في مأمن لأن هالة الدين تحفّها من كل أطرافها.. تهمة (إثارة الفتنة) تكفي لعزلك إجتماعياً وتهمة (الافساد في الارض) تكفي لتهيئة الغطاء الشرعي الديني لتصفيتك جسدياً.

ثقافة الخوف تأخذ شكلاً فارطاً في إنبثاثها وتغلغلها الى حد باتت تشبه الخوف الجذامي الذي يولّد خوفاً آخر، وجاءت النصوص المقدّسة في الكتب القديمة لتسبغ عليه مشروعية، وبهذا يكتسب الخوف مشروعية (ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة). لا ريب أن بعض التفسيرات للنصوص الدينية مسؤول عن الحض المفزع والثقيل الملقى على عواتق الخائفين في المجتمع الديني، حيث أن سطوة حضور تلك التفسيرات ساهمت في صناعة ثقافة الخوف بطابع ديني.

هذا الخوف ينبغي أن يلفت الى ظاهرة الاسلاموفوبيا ـ الخوف من الاسلام، بعد تصاعد المد الاصولي في نزوعه الارهابي الدموي. إن ثمة دعوات تسكينية بدأت تنطلق من زعماء دينيين ودعاة من أجل تهدئة تلك المخاوف عبر  الدعوة الى (تكاتف مسيحي إسلامي لوقف تيار الخوف من الإسلام)[33].

إن زيادة جرعة الخوف من التنظيمات الارهابية كونها تمثل وجودات غير متعيّنة، تسهّل لصانعي ثقافة الخوف أن يطلقوا عنان المخيال الشعبي الى أقصى حدوده من أجل إشاعة الفزع الجمعي وتثميره في وضع  تشريعات الهيمنة.. في المقابل هناك من يقع ضحية خوف من نوع آخر، وهو الخوف من نقد الاسس الفكرية والايديولوجية للتنظيمات الارهابية، خشية إندراجهم ضمن قائمة التصفيات الجسدية، أو الخوف من الخسارة المعنوية، متمثلة في القاعدة الشعبية العريضة المتعاطفة في بعض الساحات مع الجماعات الارهابية. يشير الكاتب السلفي المتنور محمد علي المحمود الى (خوف من مواجهة خطاب الخوف..هو ـ هنا ـ الإرهاب، أو الوجه الآخر للإرهاب المباشر.. ومن هنا تأتي خطورة المقاربة، وهي خطورة قد لا تكون مادية بقدر ما تكون معنوية، لكنها ـ وإن كانت معنوية ـ أشد عنفاً وشراسة!..)[34].

مهما إختلفت مع الكاتب المصري سيد القمني في طروحاته التي تبدو لدى البعض ذات طابع حاد وخشن، والى حد ما إستعراضية، فإن ذلك لا يبرر على الاطلاق تعطيبه بآلة الخوف الحادة[35]. وبصرف النظر عن ملابسات الانسحاب الغامض والى حد ما المفتعل للسيد القمني من الساحة الفكرية بكل تخاصماتها وجدالياتها الايديولوجية، فقد كان صادماً إعلانه البراءة مما كتبه من مؤلفات ومقالات وبحوث، على خلفية تهديدات جديّة بقتله وأنه (ليس راغباً في الموت على هذه الطريقة)، وقراره بالامتثال للتهديدات التي تلقاها عبر عدة رسائل في بريده الإليكتروني، منها ما جاء تحت عنوان (رسالة تحذيرية) والتي جاء فيها:

اعلم ايها الشقي الكفور المدعو سيد محمود القمني، أن خمسة من اخوة التوحيد وأسود الجهاد قد انتدبوا لقتلك، ونذروا لله تعالى ان يتقربوا إليه بالإطاحة برأسك، وعزموا ان يتطهَّروا من ذنوبهم بسفك دمك، وذلك إمتثالاً لأمر جناب النبي الأعظم صلوات ربي وتسليماته عليه، إذ يقول "من بدل دينه فاقتلوه.

"أيها الدعي الأحمق، نحن لا نمزح.. صدق ذلك أو لا تصدقه، ولكننا لن نكرر تهديدنا مرة أخرى، لن ينفعك إبلاغ المباحث بأمر هذا التهديد، فلن يفلحوا في حمايتك إلا بصورة وقتية وبعدها سيتركوك فريسة لليوث الاسلام، هذا إن حموك اصلاً. ولن تنفعك أي حراسة خاصة أو إجراءات أمن، فالحارس لن يمسك الرصاصة التي تنطلق من سيارة مسرعة أو سطح منزل مجاور، وإجراءات الامان لن توقف انفجار القنبلة في سيارتك..أو أي وسيلة اغتيال أخرى..فاعتبر بمن سبقوك ممن أرسلناهم إلى القبورمع أنهم كانوا أصعب منك منالاً، والسعيد من وعظ بغيره[36].

ومن السخرية حقاً أن تخوّل جماعة نفسها وصاية دينية وسياسية على المجتمع في تغييب مبيّت ومقصود لسلطة الدولة ومؤسساتها التشريعية والقضائية، من خلال قبول جماعة الجهاد ـ زعماً ـ التي تقف وراء تهديد القمني توبته. وكانت الجماعة قد بعثت برسالة أخرى سابقة الى القمني جاء فيها (لقد نجوت بأعجوبة حقيقية وكنَّا قد أعددنا الخطة وندرس تصوير عملية إغتيالك وإستثمارها حيث أننا تعلَّمنا من حادثة رضا هلال ـ مساعد رئيس تحرير صحيفة الاهرام ـ الذي أردي برصاص الموحدين أن ذلك النمط من الحرب لا يكون مجدياً إلا إذا صاحبته دعاية)[37].

إن جرعات الهلع في رسالتي الجماعة تشي بحقيقة واحدة: أن صانعي ثقافة الخوف بطابعها الديني يستميتون في خلق مجتمع يتعايش أفراده مع الثقافة السائدة، ويسلكون معاييرهم، ويجترّون مقولاتهم ومبادئهم، أي يعيدون إنتاجها يوماً بعد آخر وجيلاً بعد آخر.. ينفر هؤلاء من الخارجين عليهم، كونهم يفسدون عليهم سلطة ونعيماً مقيماً.. يفرض هؤلاء منسوباً محدداً ومتدنياً للوعي، يتطابق مع مقاييس السلطة الدينية وشروطها، فأية تبدُّلات في المنسوب يعني بداية انحلال للسلطة. فالمثقف يبدو منبوذاً كونه كائناً مختلفاً، لا يتماهى مع مجتمع الخوف، فقد رسم مسافة احترازية منه، وإن كان منتمياً له، ومشتغلاً في ذات الفضاء الثقافي ولكنه ناقدٌ لكل محتوياته، وبخاصة تلك المسؤولة عن (تخويف) المجتمع وخنوعه.

تتوسل بعض الجماعات الدينية بالمنشور الثقافي وأدوات النشر والتبليغ، وحالياً بقوة السلاح لنشر ثقافة الخوف، فإستثمار النص الديني في مناوئة الآخر وتشجيع مبدأ العنف ضده، والانقطاع عن الواقع بزيادة جرعة المحرم (التابو) يؤول الى ضرب حصار على المجتمع وشلِّ حركته وإبقائه مرهوناً بتعاليم رجل الدين الذي يملي عليه قيم الطاعة والخوف من الله كمعبر شرعي للخوف من السلطان. فالاستبداد المؤاخي بين الديني والسياسي يفضي الى مقاسمة السلطة بينهما فالسياسي يستبدُّ بالاجساد والديني يستبدُّ بالقلوب، وكلاهما يستمدان قوتهما من جهل الرعية وحمقها وخوفها، فرابطة الحاجة لدى كل منهما تفرض رابطة التعاون لتذليل الانسان. وشرط إذلال الانسان جهله وخوفه، يقول الكواكبي (لا يخفى على المستبد أن لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء)[38].

إن إتساع فضاء المقدّس هو ما يثري المتخيّل الجمعي ويفرض حظراً فكرياً يحول دون الانشغال الذهني بمكوّنات الفضاء، حيث يكون الخوف حارساً على دائرة المقدّس، فتصبح النصوص والتفسيرات والرموز الاجتماعية المرتبطة بالنصوص مركّبات مقدّسة يستحيل الاقتراب منها والتفكير فيها، كونها أدمجت في الفضاء المقدّس المحفوف بإشعاعات الهلع والتي ينذر الاقتراب منها بسوء العاقبة وبئس المصير. إن الخوف المتعاظم بإتساع فضاء المقدس، هو ما يجعل النص صهراً للاجتهاد وكلاهما مجسّدان في الناطق لهما: الفقيه أو عالم الدين. فكل الذين تجاسروا على تخطي العتبات الاولى لمجال المقدّس إحترقوا، وكل الذي مزّقوا غلاف التقديس المتمدد نبذوا قصياً. إن الشعور بالخوف هو ما يمنع كثيرين من المساس بالارث المقدس أو الغوص في ثناياه للبحث عن إجابات لمسائل إشكالية غير قابلة للترحيل، أو لم يعد السكوت عنها خياراً مقبولاً، لأن ذلك يعطي زمناً إضافياً لتمدد غلاف المقدّس المحظور الاقتراب منه فضلاً عن التصادم معه[39].

يتساوى لدى السلطة الدينية مبدئا النقد والنقض، إذ لا فرق بين إستعمال النقد كأدة لتقويم وتحليل النص وبين هدم النص ذاته. والسبب في ذلك، أن عملية تحريك النص بأي إتجاه يعني تحريك مواقع السلطة، لأن النقد يلغي احتكارية الحقيقة المطلقة من قبل فئة أو طبقة، وهذا من شأنه أن يلغي امتيازها السلطوي، ولذلك فالنقد يكسر حاجز الخوف الذي صنعته السلطة الدينية.. فهناك عزف متواصل على وتر الثوابت والمقدّسات التي أصبحت موصولة بأسلاك ضغط كهربي عال التوتر، تصعق كل من يغامر بلمسها، عبر  ممارسة النقد لتلك الثوابت المزعومة. على الضد، يفضي تكريس المألوف والسائد والجامد الى تعزيز سلطة السدنة، وكأن ثمة خصومة تكوينية بين هؤلاء وبين مبدئي التعددية والاجتهاد، اللذين وإن جرى تمجيدهما في العلن فإنهما يمثّلان آليتي هدم والغاء للسلطة الدينية ولدعوى (الحقيقة المطلقة) التي يزعمون الامساك بناصيتها. إذن، هناك خوف من النقد يحول دون تسوّر القلعة الحصينة للسطة الدينية، وصولاً الى تبديد الهالة المقدّسة المحيطة بسدنتها.

ثقافة الخوف المبثوثة في ألياف الوعي المجتمعي أصبحت جارفة على إيقاع الاحكام النهائية المفزعة والمطرّزة بألفاظ دينية وأخلاقية كالحرام، واللايجوز، والارتداد، والشرك، والضلال، والعيب، والمكروه، حتى باتت هذه القائمة مشاعة وقابلة للاستعمال المفتوح من كل الطبقات والمستويات العمرية، تحقيقاً لهدف واحد منشود هو ممارسة المجتمع الرقابة على ذاته وفكره والحراسة على موروثه العقدي، فيتقاسم الجميع مهمة ترعيب مضادة على الخارجين عن خط الموروث والاجماع، والا أصابتهم نبال الاحكام التحريمية: المروق من الدين، والشرك بالله، والضلال البعيد، والارتداد عن سنة سيد المرسلين. فالذين يخوضون مبارزة مع منظوماتهم العقدية إما يلجأون الى المنبّه الذاتي أو آليات الدفاع المستورة في داخل المجتمع من أجل مزاولة عملية التطهير الذاتي والاستنابة، أو يتعرّضون للنبذ المجتمعي النهائي. إن التسالم الجماعي على الموروث والسائد  يعد مكوّناً جوهرياً من مكوّنات ثقافة الخوف، فرتابة السيرورة الثقافية تنبىء عن أن إتفاقاً يعقده الخوف مع المجتمع كيما يضمن بقاء أبوية المتعالي، نصاً كان أو رجل دين، أو زعيم حركة أو حاكماً.

ولابد هنا من العودة الى السيرة الذاتية للدكتور طه حسين، كما دوّنها في كتابه (الأيام) سنة 1926 للوقوف على واحدة من نماذج ثقافة الخوف، وتشخيص ملامحها في ضوء مقاربة للحياة الاجتماعية والفكرية في ريف مصر، حيث تقطن الأغلبية الساحقة من سكان مصر. يرسم طه حسين ملامح ثقافة الخوف التي تنبذ كل مستحدث وجديد وطارىء وتنزع بعنف الى سوق الناس الى التسالم على السائد والقائم. يتحدَّث عن انثيال الناس الى علماء الصوفية هرباً من الخوف الذي يدهمهم بفعل الوعيد المتربِّص بهم تحت وابل من نذر المشعوذين والسحرة، حيث مثّل شيوخ الطريقة ملاذاً للخلاص والأمن والعجز، لتبدأ سيرة عبودية من نوع آخر وخوف من نوع آخر أيضاً،  "علماء منبثُّون في المدينة والقرى والريف. لم يكونوا أقل من العلماء الرسميين تأثيراً في دهماء الناس وتسلطاً على عقولهم" حيث يصبح شيوخ الطرق مصدر العلم الوحيد والصحيح وهو"العلم اللدني الذي يهبط عليك من عند الله دون أن تحتاج إلى كتاب، بل دون أن تقرأ أو تكتب"[40] . فيبني الخوف تماثيله في جوف الليل بأيدي البسطاء الذي يبحثون عن كرامة خارقة تضع حداً لمعاناة موهومة، وهنا يتقاطر البسطاء مثنى وفرادى لنيل بركة الشيخ ورجل الدين: "ينهض الشيخ ليتوضأ فانظر إلى الناس يستبقون ويختصمون أيهم يصبُّ عليه. فإذا فرغ فانظر إليهم يتسابقون ويختصمون أيهم يصيب من وضوء الشيخ جرعة! والشيخ عنهم في شغل، يصلي فيطيل الصلاة، ويدعو فيطيل الدعاء". ومن هنا ينشأ مجتمع الخوف حيث "كانت لأهل الريف شيوخهم وشبابهم وصبيانهم ونسائهم عقلية خاصة فيها سذاجة وتصوّف وغفلة، وكان أكبر الأثر في تكوين هذه العقلية لأهل الطرق"[41] . ولا يمكن لهذا المجتمع أن يتماسك الا بعنصر الخوف الذي يصنع مشروعية الانقياد لرجل الدين، فتأجيج الخوف في نفوس الاتباع بات مهمة مركزية وضرورة وجودية لرجل الدين كي يضمن هيمنته عليهم.

فحين خشي شيخ المدينة، الذي فشل في الحصول على درجة العالمية، من خسارة منصبه بفعل الفتى الأزهري المنافس له، إلتفت الى الناس وقال: ومن كان منكم حريصاً على ألاّ تبطل صلاته فليتبعني[42]. حيث يلجأ الشيخ الى تنشيط العاطفة الدينية وتخويف الاتباع من المصير الأسود في الآخرة لاستعادة مكسب مهدد بالزوال.

إن من طرد نصر حامد أبو زيد خارج مصر كان الديني أولاً وثانياً وثالثاً ثم السياسي، لأن أبو زيد هتك سلطة مستقرة للديني والسياسي، وقد وجد في هولندا فضاءً للحرية يسمح له بالافصاح عن مكبوتاته الفكرية، فقد ضاقت أرض الكنانة عليه ورَحُبَ خارجها. وقد تحوّل هذا النبذ الى مواجهة مع الذات، وهو ما دفع به لتصنيف كتاب (دوائر الخوف). فقد سئل عن مدى التداخل بين الهم الذاتي بالهم الجماعي، وكيف تركت محاولة فصله عن زوجته أثرها على مساره الفكري منعكساً في مقاربته لقضية المرأة في (داوائر الخوف)، فأجاب ما نصه:(الهم الذاتي كان دائماً موجوداً في أبحاثي، لكنه في هذا الكتاب أصبح مفصحاً عنه في شكل أوضح، وخصوصاً أنه كتاب عن المرأة. الازمة التي تعرضنا لها، زوجتي وأنا، لا تزال تسمّى قضية نصر حامد أبو زيد. حتى القوى الثقافية والوطنية التي تعتبر نفسها تقدمية في مصر، تناولت القضية على أنها قضية رجل تعرض للاضطهاد، مع أنها في الاساس والجوهر ظلم فادح أرتكب في حق امرأة)[43].

إن الافراط في التأكيد على وحدة الجماعة وتماسكها، والتحذير من الخروج عن خط سيرها تحت وابل من الاتهامات ووصمات الانغماس في الفتنة وفصم العروة الوثقى أمات الاحساس بفردانية الفرد ورسّخ  ربقة الجماعة والوقوع في أسر التسلط القهري المجتمعي بقوالبه الفكرية الجاهزة. ولاشك، أن إنهمار نصوص دينية بإرتجاجاتها المفزعة كفيل باختطاف الوعي الجماعي ومصادرته من قبل فئات نفعية، تجد في إرتهان المجتمع وتخلفه شرطاً للهيمنة، فالتغيير بأي درجة يزحزح بنى الروابط القائمة كما يفضي الى تصديع البناء السلطوي.

 

ـ العامل السياسي: سلطة الخوف

نقل الكواكبي في (طبائع الاستبداد) عن أحدهم قائلاً: "إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه، فالملك الجبار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدّس، والأقلام هي السكاكين، وعبارات التعظيم هي الصلوات، والناس هم الأسرى الذين يقدّمون قرابين الخوف، وهو أهم النواميس الطبيعية في الانسان"[44].

فالحاكم يريد أن يخلق مجتمعاً على صورته ليصبح ربّاً عليهم. تلفت رواية جورج أورويل الى تجربة الحكم في كوريا الشمالية، حيث ينشأ الناس في المحضن الشيوعي، كيما يخرجوا في هيئة (رجال ونساء شيوعيين)، إذ ليس من حقهم الموت قبل تشرّب تعاليم كيم إيل سونج، وبالتالي فإن الجميع مبرمجون على الولاء للحاكم، ومن يسوقه حظّه العاثر الى المعتقل فلن يخضع لمجرد العقاب فحسب، بل لابد من إعادة تأهيله ذهنياً كيما يعود للالتحاق بمجتمع الخوف[45].

إن انتاج الخوف يخدم إستراتجية التجديد الذاتي المجتمعي الثابت. وبمعنى ما وعليه، فإن ثقافة الخوف هي رد فعل انعكاسي لعجز النخبة السياسية لقيادة المجتمع. فقد فشلت السياسة في مواجهة مشكلات المجتمع ضمن رؤاها، ودوافعها، وحلولها، كما فشلت في تقريب المجتمع عبر آلية التفاهم المشترك والقنوات الدبلوماسية التقليدية. على الضد، فإن السياسة مارست في مشرقنا العربي فعلاً تهديدياً لنا جميعاً وتذّكرنا بصورة دائمة بوهننا. في الغرب والولايات المتحدة بخاصة، فإن الحملات المتواصلة ضد الارهاب نجمت عن لاشيء بل عمّقت انعدام الثقة المتبادل وضاعفت الاحساس بالعجز والعزلة.

في عالم الخوف، لا تصبح للقوانين قيمة بل ليس لها وجود مادي في ظل سيادة الاعراف، وحالة الطوارىء، والمزاج الفردي ولغة الاملاءات الشفهية، إذ يحتكم الافراد والجماعات الى شريعة من نوع آخر لا تمت بصلة الى القانون، بل الى الروابط الخاصة المشدودة في نهاية المطاف بمركز السلطة. وبحسب الدكتور عبد الرزاق عيد فإن "الخوف لا يقتل الأنا الأخلاقية في الفرد فحسب بل يقتل الأنا القانونية في داخله، عندما يكون جوهر العلاقات الحاكمة للنظام المستبد هو الاعتباطية المقيدة على حد تعبير "حنة أرندت"، فان كل شيء يغدو ممكنا في ظل دولة جوهر نظامها الاستبدادي غياب القوانين، ولأنها اعتباطية تتيح بعض الحرية ولو كانت فوضوية، فإن في دولة غياب القوانين ليس كل شيء ممكناً فحسب بل أيضاً يغدو كل شيء مستحيلا، وعلاقة الممكن بالمستحيل تحددها درجة القرب أو البعد من مركز القمع[46].

وينبهنا ماسبق الى أن ثقافة الخوف تستبطن صناعة الهيمنة، فحين تسنّ الادارة الاميركية تشريعات ضد الارهاب تهدف من ورائها زرع مشاعر الخوف كيما تبرر تضييق فضاء الحريات العامة، وتوسعة مجال هيمنة الدولة على المجتمع. إن استعمال العقوبات السياسية وظهور الافكار الوطنية من قبيل (من لم يكن معنا فهو ضدنا)، وفرض رقابة سرية على أجهزة الاتصالات، وتشريع الاعتقالات العشوائية والاحتجاز والتحقيق وإنشاء أجهزة أمنية تحت شعار الحرب على الارهاب بات مقبولاً من المجتمع الاميركي ومبرراً كافياً لتعقيم وعيه وشبكة عواطفه. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا قبل الناس بهذه التدابير الصارمة؟ إن الاجابة بلا شك ستكون: لأنهم يخافون[47].

تتحول الدولة في الغالب الى جهاز نشط في إشاعة ثقافة الخوف عبر تضخيم أخطار ايديولوجيات محددة كالشيوعية في الدول الرأسمالية أو الرأسمالية والرجعية الدينية في الدول الاشتراكية. فقد ارتبط الخوف من الشيوعية بمرحلة الحرب الباردة، والذي ساهم في توجيه الثقافة العامة ورسم السياسات العامة الاقتصادية والاعلامية والدفاعية. في المستوى الايديولوجي، تبرر كثير من الحكومات أفعالها للجمهور بالحماية ضد الخوف، والتهديد، والعنف، والارهاب المتخيّل من القوى السياسية المخالفة للسلطة وتحويلها الى قوى معادية للشعب ومصالح الامة. كما ترتبط الآن ثقافة الخوف في الغرب وانسحابها على الشرق من خطر الارهاب الاصولي. يرى نعوم تشومسكي وأليكس جونزر بأن السلطات تستعمل الخوف كوسيلة للسيطرة الاجتماعية على الجماهير. إن الحوافز المدركة للتجارب الاجتماعية في انتاج الهلع تتضمن: إلهاء الجمهور عن موضوعات مثل الجريمة، التعليم، الفقر، البيئة والبطالة. كما أن الخوف يسهم في تبرير أعمال وحروب الحكومة التي بدونه ستكون غير أخلاقية، ولاقناع الجمهور بانتخاب قادة سياسيين محدَّدين أو سنّ قوانين، ولتشجيع الشعب على إستهلاك المصادر والمشاركة في الاقتصاد، وإجراء تغييرات واسعة في السلوكيات الاجتماعية التي تكون مفضّلة لنظام الحكم[48].

في عالمنا العربي، حيث الخوف يكسو حياتنا اليومية، جرى إستنزاف الشعارات الكبرى من قبل النخب السياسية، التي وجدت في الخوف آلة سيطرة، فصادرت منذ عهد الاستقلال كرامة الامة بإسم محاربة الاستعمار والرجعية والاشتراكية وبإسم وحدة الامة وضرورات المعركة مع اسرائيل، كما تصادر الآن بإسم الوحدة الوطنية والاصطفاف ضد مؤامرات الخارج. وقد شهدنا خلال العام الفائت كيف لجأت النخب الحاكمة الى آلة خوف أخرى بتوصيم القوى الاصلاحية بالعمالة للخارج، وتلطيخ سمعتها تحت ذريعة تهديد الوحدة الداخلية والتآمر مع قوى أجنبية لضرب الاجماع الوطني!

إن التلاعب بمشاعر الجمهور من قبل الساسة عن طريق العزف على أوتار بالغة الحساسية من قبيل الوطنية بمتوالياتها والدين بقيمه أفرز خوفاً غبياً، يشرعن الخضوع الطوعي البليد. كتب صموئيل تايلور كولريدج (في السياسة، ما يبدأ بالخوف ينتهي الى حماقة) ويقول ريتشارد نيكسون (إن ردود أفعال الناس ناشئة عن الخوف وليس الحب).

يجب أن نتذكر على الدوام، بأن الخوف يعجز عن صناعة الولاء للسلطة وانما الحب وحده الكفيل بذلك. وأن الحكومات الاستبدادية والفئوية غير القائمة على تعاقد اجتماعي وتوافق داخلي تنزع بشدة الى استعمال مفرط لثقافة الخوف من أجل ترسيخ وجودها. فالولاء هو نتيجة طبيعية للحب وليس الخوف، فالخائف ليس موالياً وإن بدا غير ذلك. إن شواهد ذلك عديدة منها ما جرى في العراق، حيث تبدَّدت أشكال الاجماع المزعومة حول القيادة مع أول مؤشر على انفراط عقد السلطة وانهيار أسس الدولة.

ينقلنا ذلك مباشرة الى الفارق بين الهيمنة (hegemony) والسيطرة (dominance)، فبينما تمثّلأ الدولة حاصل جمع وتركيز قوة المجتمع فإنها بحاجة الى الهيمنة التي تعكس سيادتها، أما السيطرة فهي من خصائص الدولة التسلُّطية القائمة على القوة الاكراهية. وهنا يكمن الفارق الجوهري بين الدولة التعاقدية والدولة التسلطية التي تتوسل بثقافة الخوف من أجل ترسيخ أسس إدامة وجودها. وبهذا، تتحدَّد ثقافة الخوف وفق درجة ديموقراطية الحياة الاجتماعية والسياسية، أو الهيمنة الشمولية الطغيانية.

مهما إختلفت مع المفكر والسياسي السوري ياسين الحافظ سياسياً وأيديولوجياً فإنك دون ريب ستصغي إليه برهافة وهو يعقد تلك المقارنات المفزعة بين الغرب الديمقراطي والشرق الاستبدادي، في سياق تحليله لبنية ثقافة الخوف، الذي كان هو أحد شهودها وضحاياها. فكتابات الحافظ وأبرزها (الهزيمة والايديولوجية المهزومة 1979)، تمارس جلداً للذات حد الاحمرار. يقول في سيرته الذاتية: "في الغرب، كنت أذهل عندما أرى قوة الفرد وجرأته وثقته بنفسه أو تحرره الكلي من مختلف أشكال الخوف! هناك الفرد ديك، هنا الفرد دودة. هناك حبل صرة الإنسان موصول بالألوهة، وهنا حبله مقطوع بتاتاً، بما هو عبد، هناك العنفوان، وهنا الوداعة، هناك بروميثيوثية طاغية، وهنا القناعة وراحة البال، هناك الشك والتساؤل والنقد، وهنا اليقين والتلقين والامتثال. وعندما كنت أتساءل من أين هذه القوة التي للفرد الغربي، كان الجواب يقفز من خلال ملاحظة بسيطة للعيان، دونما حاجة لبحث وراء الأسباب التاريخية والايديولوجية والمجتمعية والسياسية: لأن بلاده كفت عن أن تكون بلاد الخوف. في ديارنا العربية، منذ سنواته الأولى، وربما منذ شهوره الأولى، تتعاور الفرد أشكال لا تحصى من الخوف: خوف من العائلة، من المعتقد الايماني، من التقليد، من المجتمع، من المدرسة، من الغد، وأخيراً من السلطة الاستبدادية الشرقية. في بلاد الخوف، سرير "بروكوست" ينتظر كل فرد، يتمدد فوقه ولكن لتقطع خصيتاه فيغدو ضحية وديعة مذعنة، حياتها فرار وموتها خلاص"[49].

بكلمات أخرى، لم يستقر الاستبداد في البلدان العربية عند مستوى الفئات العليا من أنظمة الحكم، إنما توارثته الأجيال عند مستوياتها الأدنى، وأصبحت الثقافة العربية تعكس حالات الاستبداد في مستوياتها العائلية، فالتسلط الذي يمارس في البناء العائلي يرتد بجذوره إلى الاستبداد في التاريخ العربي القديم. شاهدان يكفي للاعتبار:

الشاهد الاول: كتب معاويّة في عام 55 هـ إلى كل الولايات أن يأتوا إليه لأخذ البيعة لإبنه ‏يزيد، فلما حضرت الوفود إلى معاويّة وكان معه بعض أصحابه، طلب معاويّة من هؤلاء الأصحاب أن يبدوا ‏رأيهم في يزيد، فتكلم بعضه، ثم قام يزيد بن المقفع فقال:‏ ‏أمير المؤمنين هذا".. مشيرا إلى معاويّة "فإن هلك فهذا"..وأشار إلى يزيد، ‏‏ ثم قال: "فمن أبى فهذا " وأشار إلى سيفه.. ‏‏فقال له معاويّة: "إجلس فإنك سيد الخطباء"[50]. ‏

الشاهد الثاني: حجَّ عبد الملك بن مروان بالناس سنة 75 هـ، وخطب فيهم قائلاً: (لست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون ـ يعني يزيد ـ  ألا وإني لا أداري هذه الامة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم .. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله ـ بعد مقالي هذا ـ إلا ضربت عنقه، ثم نزل)[51].

لقد خلقت الانظمة الشمولية في المشرق مجتمعاً فصامياً تحت وطأة ثنائية متضادة ترفع شعاراً وتمارس نقائضه، هذه الفصامية التي تتعاطاها الانظمة قدّر لها أن تتفشى في ثقافة المجتمع الذي بات شديد الارتباك، بما يجعله في حالة تردد دائم ولا يمكن لأيدي أن تبني وهي مرتعشة، كما يقول جمال عبد الناصر. فالازدواجية والنفاق السياسي والمجاملة المريبة تمثل مكوّنات لسيكولوجية الانفصام القاهر. فإطلاق شعارات الحرية، والديمقراطية، والتعددية والعدالة، والوحدة، وتكافؤ الفرص، وتوزيع الثروة، وسلطة الشعب، باتت مقتنيات سياسية بالغة الاهمية في طلاء وجه السلطة، وإن كانت تخفي نقائضها ومضاداتها في العلاقة بين المجتمع والسلطة وبين المجتمع بعضه ببعض.

إن خطورة ثقافة الخوف تكمن في قدرة المجتمع الفريدة والبارعة على إنتاجها بصورة دائمة وتلقائية بعد أن أفرغت السلطة كل سمومها في جسده، بحيث يكون أعضاء المجتمع متطوعين لتعميم ثقافة الخوف ووكلاء غير رسميين عن السلطة الجائرة في ترويجها.

في سؤال: لماذا يعزف الشعب المصري عن المشاركة السياسية؟ لخّصت الدكتورة منى مكرم عبيد الاجابة في كلمة واحدة: الخوف. وتؤكّد شاهيناز عبد السلام في مقالة بعنوان (أرض الخوف) على أن (الخوف هو السبب في الصمت..الخوف هو السبب في كتم مشاعرنا وحتى مشاعر الإحتجاج والتعبير عن الغضب والإستنكار بطريقة سلمية..) وتنقل الكاتبة تجربة شخصية لها بعد مشاركتها في مظاهرات حركة (كفاية)، حيث كانت لغة ثقافة الخوف تفصح عن نفسها من قبيل (أنتي مجنونه مش خايفة على نفسك؟.. لن تتحملي ليلة في أمن الدولة.. إنهم يطلقون الكلاب على الجميع ولا يفرّقون بين رجال ونساء..مش خايفة على أهلك)[52].

إن الطاقة البشرية حين تضلل بالخوف، تصبح مشوّهة ومدمّرة، حسب ك. لورين دي بور K. Lauren de Boer في مقالته بعنوان (ماوراء ثقافة الخوف) المنشورة في مجلة (Earthlight) في 2002/03 حول كتاب (ثقافة الخوف) باري جلاسنر (CULTURE OF FEAR)[53].

يروي عالم الاجتماع المصري ومدير مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية الدكتور سعد الدين ابراهيم تجربة شخصية عثر على تفسيرات لها خارج أسوار معتقله. ففي تجربة اعتقال أيمن نور، مرشح حزب الغد في الانتخابات الرئاسة لعام 2005، يرتفع الستار عن مشهد سيكولوجية الخوف الجماعي، الذي ترجمه صمت عدد كبير من الساسة والمثقفين أثناء محاكمة أيمن نور في القضية المنسوبة اليه، والتي تكاد تكون،  حسب سعد الدين ابراهيم، نسخة كربونية من السيناريو المرسوم لقضيته قبل خمس سنوات، ولكن ما يجمع بين القضيتين هو تفرّق الناس عنهما، فأولئك الذين يعلنون النصرة لهم في السلامة ويتخذون في الشدة مواقف نقيضة إنما يمنعهم الخوف (عن التعبير عن تضامنهم العلني)[54].

تقول الطبيبة الاسرائيلية روشاما مارتون التي كانت تقوم بالتحقيق في استعمال التعذيب من قبل قوات الامن الاسرائيلية، إن الاعترافات المنتزعة عن طريق التعذيب هي بالطبع غير ذات معنى، فالغرض الحقيقي ليس الاعتراف، ولكن هو الصمت (الصمت الناجم عن الخوف) و(أن الخوف معدٍ وينتشر الى الاعضاء الآخرين للجماعة المقهورة، من أجل إسكاتهم وشلّهم)[55].

يمثّل كتاب كنعان مكيّة (جمهورية الخوف) الصادر سنة 1990 سجلاً توثيقياً لعشرين مليون خائف كانوا يقبعون داخل العراق لمدة نحو عقدين، تلك الثقافة التي خلقت مجتمعاً مهجوساً بكل أشكال الارتياب والهلوسة، الى حد باتت أذهان الناس منهوبة بصورة دائمة للانشغال في وضع كافة التدابير الاحتياطية لدرء الاخطار الخفية من أجهزة الامن، فوشائج التضامن قد تمزَّقت بضربات الخوف المتواصلة، وبات المنفى خياراً قهرياً وجماعياً للخلاص. إن استفحال ثقافة الخوف تعيق حتى مجرد البوح بالألم دع عنك الافصاح عن الأمل في حياة أفضل.

من الجدير بالاشارة، أن قوى معارضة في بعض البلدان العربية إستعارت مصطلح جمهورية الخوف ليكون توصيفاً مكثفاً للأوضاع الامنية في بلدانها. ومما يزيد الأمر قسوة، أننا نتحدث عن جمهورية الخوف في الوطن العربي إما خارج الحدود إتقاءً للبطش وطلباً للسلامة أو النأي عن تسميتها، ريثماً تتهدم جدرانها فيكون حينئذ الكلام الحرام أمنياً مباحاً سياسياً ونفسياً.

 لقد أصبحت قاعدة الحكم: إن من يريد أن يحكم بإقتدار عليه أن يشيع موجات هلع بوتائر متواصلة في أوساط المحكومين في سبيل إدامة السلطة وتأمين أسس إستقرارها. إن صناعة مخيال الخوف مطلوب من أجل صناعة بيئة للخوف تمارس دوراً رادعاً وتحصينياً للنظام السياسي. تقول سوزان جيفرز أن 90 بالمئة مما نخشاه ليس له نصيب من الواقع، أي لن يقع، وإنما هي مخاوف متخيّلة[56]. في حقيقة الأمر، أن العديد من الانظمة السياسية الشمولية منها بخاصة تميل الى صناعة مخيال خوف لدى المواطنين من أجل تضخيم هيبة السلطة.

تفرض هيمنة السلطة السياسية بصورة طاغية نوعاً من ثقافة الخوف تحول دون الجأر بالتظلم فضلاً عن المطالبة بالحقوق. فقد نشرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان في الحادي وعشر من أبريل 2005 تصريحاً لناشطين ومراقبين لأوضاع حقوق الانسان في الاردن يرجعون فيه عدم استشعار المواطنين بجدوى المؤسسات الاهلية العاملة في مجال حقوق الانسان الى (ثقافة الخوف من تقديم شكاوى حول إنتهاك حقوقهم، أو لعدم تجاوب الحكومة مع فحواها..). ومن اللافت أن إقراراً ضمنياً صدر عن نائب رئيس الوزراء للشؤون البرلمانية وزير التنمية السياسية هشام التل بوجود هذه الثقافة داعياً المواطنين الى (الابتعاد عن ثقافة الخوف)[57]. وقد أرجع الناشط الحقوقي فوزي السمهوري تفشي ثقافة الخوف الى غياب (ضمانات تشريعية وتنفيذية من الحكومة) في التعامل مع شكاوى المواطنين في مجال حقوق الانسان. فيما أرجع أمين عام حزب الوحدة الشعبية سعيد ذياب ذلك الى (تخوف المواطن من الأجهزة الأمنية في حال علمت بشكواه..).

ولنتصور أن بلداً كالأردن الذي ينعم بهامش كبير من حرية التعبير والصحافة يكشف استطلاع فيه الى أن (86 بالمئة من المواطنين لا يجرأون على إنتقاد الحكومة وبالتالي عدم إمتلاكهم الجرأة لتقديم شكوى ضد إنتهاك حقوقهم) فبإمكان المرء تخيّل كيف تكون الحال في بلدان عربية أخرى تهيمن فيها الدولة على مجمل وسائل الاعلام وتفتقر الى مؤسسات دستورية ونيابية مستقلة، أو مؤسسات أهلية فاعلة ومستقلة. تجدر الاشارة الى أن الاردن يحتل المرتبة الثامنة في قائمة مؤلَّفة من عشرين دولة عربية خضعت لدراسة أعدّها مركز المعلومات التابع لمجلة إيكونوميست على مستوى الحرية السياسية والمدنية في نوفمبر 2005 ، فيما جاء كل من سوريا والسعودية وليبيا في المراتب الأخيرة[58].

 

خلاصات ومقترحات

ـ من يتأمل في المعطيات سالفة الذكر وبقليل من الفحص في المناخ الثقافي العربي اليوم، لا بد أن يلحظ طغيان ثقافة الخوف التي تتغذى على مصادر متنوعة تربوية ودينية وسياسية وإعلامية، وأن الانفتاح الاعلامي في شكله العولمي لم يزد ثقافة الخوف الا انتشاراً وسطوة. ومن المفارقات المذهلة أن التباينات الشكلية للسلطة في العالم العربي لم تعكس تبايناً في درجات تغلغل ثقافة الخوف، فالخطابات الثقافية المحشوّة بمواد هلع تتوحَّد في كافة أقطار العرب من المحيط الى الخليج، وكأن ثمة إجماعاً عربياً منقطع النظير على توحيد خطاب الخوف ثقافياً،  لحظنا ذلك بجلاء في غمرة التجاذبات الداخلية في عدد من الاقطار العربية حول الاصلاح السياسي، كما نلحظها أيضاً في ردود الافعال على موضوعات التجديد الديني، والاصلاح  الاجتماعي.

ـ في السياسة كما في مجالات أخرى عديدة، يراد للأفراد البقاء داخل دورة استهلاكية لثقافة الخوف الكفيلة بإبقائهم عناصر معطوبة، تستجدي العون من السلطة ولا تقرر مصيرها، باعتبارها مدرجة خارج مفهوم المواطنة، بمملياته الدستورية، وبما يقتضي من حقوق وواجبات منصوصة، إذ تبدو منطقة الحقوق مقفلة تحت ستار الخوف من البطش، فيما يُنظَر الى المطالبات الحقوقية بوصفها هتكاً لستار السلطة وافتئاتاً على حقها التاريخي والالهي. في حقيقة الأمر، أن المجتمع ينتج ثقافة خوفه في إنعدام قانون يحميه، ولذلك يتلبّس بالخوف كإجراء حمائي ضد مخاطر متخيّلة قد تدهمه من مصادر معروفة وأخرى مجهولة، فالمخيال الرهابي في غياب القانون يتحول الى مصدر عبقري فريد في توليد أفكار تسوّغ خوف صاحبه، كما تسبغ على السلوك العام للمجتمع حلّة فاتنة تحيكها ثقافة الخوف، فيتحول هذا السلوك الى مصدر إطمئنان، طالما أنه يكفل مجرد الوجود البيولوجي للمجتمع، المتساوي مع باقي الوجودات الطبيعية والحيوانية، ولذلك تصبح مقولة (بدنا نعيش) عقيدة إجماعية مقبولة ورائجة.

ـ في تقديرنا، إن رهان التغيير الشامل يتوقف على الارتطام بجرأة عالية بثقافة الخوف، ونبش جذورها، وفحص مصادرها، وكشف تجسيداتها السياسية والاجتماعية والفكرية وصولاً الى تبديدها. وبطبيعة الحال، فإن محو ثقافة ما ذات إمتدادت عميقة وبعيدة في الوعي والذاكرة التاريخية للمجتمع لا يتم بالضربة القاضية، فنحن أمام ظاهرة متفشية في كل حقول الحياة: الاجتماعية والسياسية والدينية والتربوية والاعلامية، وتتطلب ابتداءً تمشيطاً واسعاً لمناطق ثقافة الخوف كتدبير أولي لجهة تحديد رقعة الانتشار ومكامن قوته الفاعلة، كما نفعل الآن، ومن ثم البدء بوضع خطط عملية لقلب أنماط التنشئة التربوية السائدة في المجتمع بالتركيز على قيمة الانسان، وحقه في الحياة الكريمة، وحريته في التفكير والتعبير والتدبير. بمعنى آخر، إسقاط الاصنام الذهنية وأشكال السلطة كما غرستها ثقافة الخوف وإعادة إنسانية الانسان الحر، وهو تدبير تربوي يعضده تدبير قانوني آخر يتأسس على شياع مفهوم المواطنة، التي تحقق مبدأ المساواة بين الافراد وترسم للجميع خطاً حقوقياً متساوياً بصرف النظر عن تحدّراتهم الاثنية والدينية والسياسية. ولا شك أن إنغراس فكرة المواطنة يؤدي تدريجياً الى زوال شبح السلطة كما تجسّدت في شخص الحاكم ويحلّ مكانه مبدأ سيادة القانون، فلا سلطان على الجميع الا القانون.

ـ إن مصدر إبتلاء المجتمعات العربية هو أن طغيان ثقافة الخوف أفضى الى تلغيم الفضاء العام، وأشاد الاصنام محل الاحلام،  فكان لكل حقل في تلك الثقافة أصنامه الخاصة، فالدولة صنم، ورجل الدين صنم، وزعيم العشيرة صنم، والعادات صنم..وهكذا، حتى بات الفرد يمشي داخل حقل ألغام الى جانبه مجموعة أصنام، حيث يجتمع الخوف والرجاء في فضاء واحد، فالخوف يفني إنسانية الفرد والرجاء يجود عليه بشرعية الخوف أو الاطمئنان المقلوب أو الزائف.. إن تهديم الاصنام يتطلب دون ريب إزالة القيود الثقافية والنفسية التي رهنت الانسان الى خوفه وأفضت الى تلاشيه، فلم يعد مشاركاً، ولا فاعلاً، ولا إنساناً فهو مجرد تابع، وساكن ومستسلم، وأسير مصادر التهديد المحيطة به في كل الاتجاهات. ويكمن الحل في ممارسة عملية تفزيع مضادة لمصادر التهديد داخل الفرد والمجتمع بإتجاه التمرد على الذات وتكسير القيود الوهمية من أجل فتح جسر العبور الى زمن آخر وثقافة أخرى ووضع آخر، حيث لا خوف ولا أصنام ولا ألغام ثقافية وتربوية وسياسية.

وسنجابه بطبيعة الحال بالسؤال التقليدي: ولكن كيف؟ والجواب عن ذلك يتطلب عملاً جبّاراً نجح أحياناً على مستويات فردية، ولكننا نتطلع لأن يصبح العمل الجبّار جمعياً، أي وضع إستراتيجية تغيير شاملة لمجمل مكوّنات ثقافة الخوف، وفضح أهدافها، فالناس يخافون لأنهم يجهلون كيف تلبّستهم تلك الثقافة، ولكن حين يدركون بأنهم وقعوا تحت تأثير خديعة أو أنهم ضحايا وهم فبالتأكيد سينهضون مثنى وفرادى وتالياً زرافات، بإعادة بناء الثقة بالذات الفردية والجماعية.

ـ ندرك بالتأكيد أن تمدد فضاء المقدّس، تماماً كتمدد مجال السلطة السياسية، والمجتمع الأبوي، وغيرها من أشكال التمدد المسؤولة عن تصنيع ثقافة الخوف، تملي خطة شديدة التعقيد من أجل ملامسة جذر المشكلة، فثمة مشكلات غير قابلة لمعالجات عابرة وسطحية وإنما تندّك في وعينا الديني والاجتماعي والسياسي. إن تمدد فضاء المقدّس، على سبيل المثال، لا يسمح بتطوّر العملية النقدية، وبخاصة حين يكون الفضاء متداخلاً مع فضاءات اخرى سياسية واجتماعية. وبالتالي فنحن بحاجة الى إختراق فضاء المقدّس في مهمة عاجلة لاعادة ترسيم حدوده ومقاساته، تمهيداً لانحسار هيمنة الفضاءات الاخرى.

ومن هذا المنظور، يمكن التشديد على دور مؤسسات المجتمع المدني، بوصفها الوسيط الطبيعي والحاضنة النموذجية لنمو الحريات العامة، والبنية التي يعوّل عليها في تحويل المجتمع وإعادة تنظيمه على أسس جديدة. إن دور تلك المؤسسات يصبح مركزياً حين يستهدف تشكيل البيئة الثقافية للمجتمع، ويقوم بقطع إمدادات ومغذّيات ثقافة الخوف، وممارسة دور الفاضح لمصادرها وأدواتها، وتالياً في تأهيل المجتمع للدخول في أقنية فعل ثقافي واجتماعي وسياسي مستقل.

 

 *  ورقة بحث قدّمت لمؤتمر فيلادلفيا الدولي الحادي عشر ـ

 المؤتمر العلمي لكلية الآداب والفنون بعنوان (ثقافة الخوف) في جرش ـ الاردن في الفترة ما بين 24 ـ 26 أبريل 2006 

رابط المؤتمر

http://www.philadelphia.edu.jo/artsconf/papers/4.doc

 


 

[1] Edward Burnett Tylor, Primitive Culture, vol. I: The Origins of Culture (New York: Harper and. Row, 1958); orig. publ. 1871; Chapter 1.see: http://www2.truman.edu/~rgraber/cultev/tylor.html. accessed on January 31, 2006

[2] لويس دولّلو، الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، ترجمة خير الدين عبد الصمد، دمشق 1993 ص 103

[3] ـ مارتان هيدجر، الفلسفة في مواجهة العلم والتقنية، ترجمة د. فاطمة الجيوشي، دمشق ـ 1998، ص 13 ـ 14

[4]  Barry Glassner )1999) , The Culture of Fear, (New York: Basic Books), p.208

[5] Furedi, Frank (2002), Culture of Fear, New York, p.15

[6] علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، حكمة رقم 108 وأنظر: الشيخ ابو الفتوح الكراجكي، كنز الفوائد، تعليق الشيخ عبد الله نعمة، دار الذخائر بيروت، ج2 ص 68

[7] -Barry Glassner, op.cit., p.208

[8] Barry Glassner, ibid, p.209

[9] جورج أورويل، رواية 1984، ترجمة أحمد عجيل طبعة بغداد 1990 ص 340

[10] جورج أورويل، المصدر السابق، ص ص 174، 289

[11] سعد الله ونوس، الاعمال الكاملة، يوم من زماننا، الاهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق ط1 1996، المجلد الثاني ص 198ـ199

[12] سعد الله ونوس، يوم من زماننا، مصدر سابق مج2 ص 246

[13] سعد الله ونوس، الاعمال الكاملة، يوم من زماننا، مصدر سابق، المجلد الثاني ص 248

[14]  ذوقان قرقوط، إريك فروم: مختارات من "ثورة الأمل - نحو أنسنة التقنية" The Revolution of Hope بتاريخ 18 ديسمبر 2001، أنظر: http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?t=4&aid=501

 

[15] جورج أورويل، رواية 1984، مصدر سابق ص 9

[16] - Susan Jeffers (1987), Feel The Fear And Do It Anyway, London, p.17

[17] نقلا عن لويس دولّلو، الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، ترجمة: خير الدين عبد الصمد، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1992، ص ص 33 ـ 34

[18] لويس دولّلو، الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، المصدر السابق ص 97

[19] Mischa Titiev, "Enculturation" in A Dictionary of the Social Sciences, Julius Gould & William L. Kolb, eds. (New York: The Free Press, 1965), p. 239.

[20] M.J. Herskovits, Man and His Works, Knopf, New York, 1948, cited by Titiev, ibid

[21] John W.M. Whiting, "Anthropological Aspect" of "Socialization," International Encyclopedia of the Social Sciences, David Sills, ed. (U.S.A.: The Macmillan Co. & The Free Press, 1968), XIV, 545-549

[22] غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة وتقديم هاشم صالح، دار الساقي ـ لندن، ط1 1991 ص 134

[23]  إريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972 ص 150

 

[24] أنظر: د. محمد عباس نور الدين، التمويه في المجتمع العربي السلطوي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000، تقدمة هشام شرابي

[25] أنظر: هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، بيروت، 1985 ص 74ومابعدها

[26]  Sharabi, Hisham (1988) Neopatriarchy, A Theory of Distorted Change in Arab Society, Oxford, p.7

[27] ذوقان قرقوط، إريك فروم: مختارات من "ثورة الأمل - نحو أنسنة التقنية"  The Revolution of Hope بتاريخ 18 ديسمبر 2001، أنظر:

http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?t=4&aid=501

 

[28] مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، بيروت، معهد الانماء العربي 1976، ص 49

[29]  مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، ص253

[30] -see: Gilbert, D.T.; Fiske, S.&Lindzey, G., (eds). The Handbook of Social Psychology. (Boston:1988).

[32] Scott, James (1990), Domination and the Arts of Resistance, London, pp.72ff

[33] من كلمة إفتتاحية وزير الشؤون الدينية التونسي جلول الجريـبـي في الندوة المولدية 29 بعنوان (حضارة التسامح والتضامن) برعاية وزارة الشؤون الدينية بتاريخ 22ـ23 مايو 2002 بمدينة القيروان أنظر: http://www.ezzitouna.org/akhbar/220502-1.html

[34] محمد علي المحمود، تحديات ما بعد الإرهاب، جريدة الرياض الخميس 5 ربيع الأول 1426هـ - 14 إبريل 2005م - العدد 13443

 

[35] حلمي سالم، سيد القمني..قاتل أم قتيل؟، صحيفة الاهالي العدد 1239 (3ـ10) أغسطس 2005

[37] الشرق الاوسط، العدد 9739 بتاريخ 28 يوليو2005

[38] عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، مؤسسة ناصر للثقافة ، بيروت 1980، ص 30

[39] للمزيد أنظر: علي حرب، لعبة المعنى..فصول في نقد الانسان، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991

[40] الدكتور طه حسين، الأيام، طبع دار المعارف بمصر، ط47، القاهرة 1971- الجزء الاول ص 85

[41] الدكتور طه حسين، الأيام ج1 ص96

[42] المصدر السابق ج1 ص 82 ـ 83

[43] مقابلة مع د. نصر حامد أبو زيد بتاريخ 17/10/ 2002 أجرى الحوار د.محمد علي الأتاسي، انظر: ملحق النهار الثقافي، بيروت

[44] الكواكبي، طبائع الاستبداد، مصدر سابق ص 33

[45] George Orwell’s Nineteen Eighty Four North Korea, Seoul, Korea, Tower Press, 1984, pp.67-69

[46] د.عبد العزيز عيد، ثقافة الخوف، محاضرة ألقيت في منتدى الاتاسي ـ دمشق بتاريخ 18/7/2005 نقلاً عن موقع المواطن www.mowaten.org

[47] جويل إيجي، الحرية والتحرر من الخوف، جريدة المدى، بغداد، أنظر:

 http://almadapaper.com/sub/01-306/p04.htm ; accessed on February 2, 2006

[49] ياسين الحافظ، الهزيمة والايديولوجيا المهزومة، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1979

[50] ابن الاثير، الكامل في التاريخ، دار صادر بيروت، 1965  ج3 ص 352

[51] إبن الأثير، المصدر السابق، ج 4 ، ص 33 ـ 34

[52] موقع جريدة الوعي المصري، جريدة اسبوعية الكترونية 15 أبريل 2005 

[54] سعد الدين إبراهيم، أيمن نور وجمهورية الخوف، صحيفة الراية القطرية، 2 يناير 2006

[55] - Noam Chomsky,The Culture of Fear, in Javier Giraldo, Colombia: The Genocidal Democracy, Common Courage Press, July, 1996. retrieved from: http://www.chomsky.info/articles/199607--.htm, accessed on January 20, 2006

[56] Jeffers, Susan, Feel The Fear and Do It Anyway, op.cit., p.72